يستحسن بالإنسان أن لا تعيقه إنشغالاته أو همومه الخاصة عن إبصار وتذكُّر الحقائق الناصعة التي تسطع دائماً في حياة الشعوب حتى في أدق لحظات الحزن والمحن.

كيف لنا نحن الأرمن، ألا نتذكر فضل العرب علينا ونحن على أعتاب الذكرى التسعين للهجرة و«السفربرلك» والمذابح التي تعرضنا لها على يد العثمانيين الأتراك في خضم الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في 24 أبريل 1915، تلك الذكرى التي ستحل علينا بعد أيام، والتي يستعد الأرمن لإحيائها حول العالم.

كثيرون هم العرب الذين عايشوا أحداث تلك المعاناة المؤلمة التي امتدت لسنوات عدة في بداية القرن العشرين، وكثيرون هم أيضاً من سمعوا عنها كما سمع وتأسف لها ضمير العالم أجمع.

ما أرغب قوله في هذه المقالة لا يهدف إلى ذكر سرد تاريخي عن الكارثة التي حلت بالشعب الأرمني المتحضِّر المسالم، ولا عن المليون ونصف المليون من الضحايا من العجائز والنساء والأطفال الذين هجروا ديارهم في أرمينيا الواقعة في شرق الأناضول المحتل من الامبراطورية العثمانية آنذاك باتجاه شمال دول عربية مثل سوريا والعراق، وتمت تصفية غالبيتهم على الدروب المقفرة، بل أرغب في التركيز على المعاملة التي تلقاها من تبقى منهم (المهاجرون) من الشعوب العربية التي استضافتهم، وإنني أشعر هنا بل أجزم بأنني مهما حاولت فسأكون مقصِّراً بحق جهة ما، وكم أخاف من أن أعجز عن إيصال القارئ العربي إلى مدى حفظنا واستيعابنا السليم وتطبيقنا لمقصد المتنبي الشاعر العظيم القائل:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

             وإن أنت أكرمت اللئيم تمرد >

وإن كانت شيمة الكرم أيضاً تعني رد التحية بأحسن منها، إذاً ليس لنا نحن الأرمن إلا الإنحناء لكرم الأخلاق العربية الذي استقبلنا في تلك الأيام الأليمة، وساعدنا في محنتنا، وأطعم أطفالنا وكساهم، وستر نساءنا، ولم يبخل من كرمه بشيء رغم شح الموارد في تلك الأيام في مناطق دير الزور ومسكنة والرقة السورية الواقعة في تلك الفترة تحت الحكم العثماني أيضاً، إذ لم يقصر العربي البدوي النشمي عن تقديم أي مساعدة للأرمن المضطهدين، وحاول قدر المستطاع إنقاذ الأرمن من يد درك الأتراك المدججين بالسلاح الذين كانوا يجرون قوافل المهاجرين معرِّضاً نفسه للخطر والمساءلة، ولم يكن سكان المدن السورية والعربية أقل منهم لطفاً وكرماً حيث وصلت بقايا المهجرَّين في دور الأيتام ودور العجزة وبيوت الصفيح إلى أن استقرت حالهم بفضل همتهم ونشاطهم ومساعدة الأخوة العرب لهم وتسهيل معيشتهم وتنقلاتهم، حيث بقي من رغب منهم في سوريا ولبنان والعراق، وأخذ آخرون طريقهم إلى فلسطين والأردن ومصر، كما وجد الكثير منهم طريقه إلى أوروبا وخاصة فرنسا التي كانت متنفذة آنذاك ومنهم من أكمل طريقه إلى أميركا ليتباعد الشعب الأرمني في الشتات.

أما الجدير بالذكر والتقدير هنا فهو أن جميع الأرمن الذين استقروا في الدول العربية المذكورة حصلوا على جنسيتها وتمتعوا بحقوق المواطنة كاملة والتزموا بواجباتهم تجاهها بما في ذلك الخدمة العسكرية، وعملت المدارس والجامعات العربية على تخريج أجيال من المتعلمين أبناء الأرمن، ومزجت الشعوب العربية الأرمن في نسيج مجتمعاتها دون تفرقة بين العرق أو الدين، ورغم أن جميع الأرمن هم من المسيحيين فإن أحداً منهم لم يواجه أي تفرقة في المجتمع العربي المسلم، بل عاش الأرمني مع العربي في وئام وانسجام تامين، وإذا كان المثل يقول «من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم»، فما بالك بمن عاشر قوماً أربعين سنة وأكثر في السراء والضراء ؟ فمن المؤكد أنه أصبح منهم وفيهم.

إن ولاء الأرمن لأوطانهم الحالية لا ينازعه انتماؤهم القومي الأصلي مهما تعاظم، إذ لم يبخل الأرمني على وطنه بروحه ودمه ولا بالغالي ولا بالنفيس وأصبح عدو العرب عدواً للأرمن وصديق العرب صديقاً للأرمن، حياة واحدة ومصير واحد للجميع وشركاء في الازدهار.

كل الشكر والعرفان للعرب الذين أصبحنا منهم.

كل الشكر للعرب بكل انتماءاتهم وأديانهم وطوائفهم ومذاهبهم وعشائرهم وأعراقهم وأقلياتهم.

شكر خاص لكل حفيد مد يد العون وساعد أحد المهاجرين الأرمن في محنته بشكل مباشر.

شكر خاص لسوريا التي كانت أول صدر رحب احتضن الأرمن ولمدينة حلب الشهباء مدينة الفارس الفذ أبي فراس الحمداني التي أفسحت لنا المكان لبناء أول أعشاشنا على غصونها المعطاء. 

شكراً لعنجر ولبيروت بطوائفها ومذاهبها التي أصبحت منارة للجاليات الأرمنية المنتشرة حول العالم. فكم وفرت ظروفاً إيجابية لهم ولقضيتهم.

شكراً للاسكندرية المرفأ الآمن الذي احتضن جالية كبيرة من الأرمن وأكرمهم أحسن إكرام.

شكراً لكل المدن العربية التي آوت موجات المهاجرين وبالأخص دير الزور وبغداد والقاهرة وعمان والقدس زهرة المدائن.

الشكر الوفير للكويت المحروسة العزيزة أميراً وحكومة وشعباً لما تغدقه على الأرمن من جميع جنسياتهم… حياة آمنة وعيشة رغدة وحسن معاملة.

ليتني أستطيع الوفاء بجزء مما يستحقه أي عربي على امتداد العالم، وليعذرني من لم ينل شكري في هذه المساحة الضيقة، ولكن له في قلبي كل الإجلال والاحترام.

 

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 14-4-2005

وفي جريدة «الحياة»  بتاريخ 24-4-2005 تحت عنوان «مزجتمونا نحن الأرمن…» 

و في جريدة «النهار» بتاريخ 1-8-2005 تحت عنوان «شكراً للعرب».

هي من أكثر المقالات التي أعتزُّ بها، ولا تشعرني بالعزة والفخر فحسب، بل وتجلب لي نوعاً من الراحة النفسيَّة التي يستشعر بها كل إنسان  قام بواجب كان قد تأخَّر في القيام به، أو لنقل إنه  الشعور بالرضا من شخص أنجز عملاً كان قد تقاعس في أدائه لفترة طويلة  ويشعر بتأنيب الضمير والتقصير، وها هو يجمع همَّته وأفكاره ويسطِّرها على الورق، ثم ينشرها على الملأ في ثلاث جرائد دفعة واحدة وهي «القبس» و«النهار» و«الشرق الأوسط»، والأخيرة استبدلت العنوان الذي وضعته بعنوان آخر هو «مزجتمونا نحن الأرمن…»، وهكذا أكون قد بلغت ما يخالجني من مشاعر نبيلة تجاه اخواني من الناطقين بالضاد وأريح ضميري، وكان ذلك في العام 2005.

نعم، أنا أعتز بمقالتي هذه لما استطعت تسطيره فيها من عبارات الشكر لإخواننا العرب في جميع بلدانهم ومدنهم وقراهم، وأغتنم الفرصة في هذا التعليق بإضافة بعض الكلمات التي تعبر عن مدى امتناننا نحن الأرمن وتقديرنا للعرب وآبائهم وأجدادهم الذين حمونا من براثن الأتراك الذين هجَّرونا من وطننا أرمينيا إبَّان الحرب العالمية الأولى وساقونا مخفورين، في أسوأ الظروف المأساوية اللاإنسانية عبر سهول أرمينيا والأناضول وصحارى شمال سوريا ومدينة دير الزور والرقة والمرقدة حتى وصولنا إلى حلب، حيث تجمَّع معظم المهجَّرين ووجدوا الرعاية الإنسانية النبيلة وبدأوا بجمع شتاتهم في المدارس ودور الأيتام، وبعد تأمين سلامتهم توزَّعوا من هناك على بقية المدن السورية واللبنانية والعراقية ومنهم من انتقل إلى دول أخرى كمصر وفرنسا وأمريكا وتشتَّتنا حول العالم .

وهذا سرد موجز عن تلك الفترة وما تلاها… بعدما استقرَّ الأرمن في البلدان العربيَّة بدأوا في استنهاض الهمم بتنظيم أنفسهم اجتماعيَّاً ودينيَّاً واقتصاديَّاً وتعليميَّاً إلخ. فمن الناحية الاجتماعيَّة بدأوا مثلاً بجمع شمل العائلات المبعثرة هنا وهناك وتأمين سقف آمن يعيشون تحته، فأسَّسوا دوراً للأيتام وعملوا على اضفاء جوّ من الأمان والاستقرار وازالة الرعب من قلوبهم وتحويلهم إلى أناس طبيعيين يخدمون أنفسهم ومجتمعاتهم. وكون الحياة الإجتماعية الصحيحة تحتاج إلى رعاية روحيَّة وتوجيهات ووازع ديني بنوا لأنفسهم الكنائس للقيام بطقوسهم وعباداتهم، كما باشروا حملة مركزة لبناء المدارس بجميع مراحلها، وهناك مدارس أرمنيَّة في أغلب الدول العربيَّة تدرِّس اللغة والثقافة والتاريخ الأرمني وذلك حتى المرحلة الثانويَّة، وهناك أيضاً جامعة أرمنيَّة رسمية واحدة في البلاد العربية ألا وهي جامعة هايكازيان التي تأسَّست في العام 1956 في محلة القنطاري في بيروت، وهي من الجامعات المرموقة وتقوم بواجبها الاجتماعي والأكاديمي على أحسن وجه تجاه وطنها وطلابها من كافة الجنسيات.  بدأ المهاجر الأرمني بتأمين معيشته وتأسيس اقتصاده أولاً بالعمل الحرفي بالمهارات التي جلبها معه من وطنه الأصلي كالحدادة والنجارة وصناعة الأحذية وسائر الصناعات الخفيفة التي انقذته من شظف العيش وأمَّنت له الحياة الهنئة، لكنَّه ما لبث أن تطور وتحوَّل إلى صاحب معامل ومصانع تنتج أجود البضائع التي يصدِّرها إلى مدن وبلدان أخرى، وقد غدا معروفاً في محيطه المهني وصار يشار إليه بالبنان على أنَّه الصناعي أو الميكانيكي أو المهني الذي يتقن عمله ويتفانى فيه وأنَّه أمين وأهل ثقة، لا يغش وهذه السمعة الجيدة أمَّنت له احتراماً وثقة إضافية ساعدته على كسب ودّ إخوانه العرب ومهَّدت له الطريق للاختلاط في نسيج المجتمع الذي يعيش فيه وتكوين صداقات وشراكات وعِشرة لا يُعلى عليها.

بعد تحسُّن الأحوال المادِّية للأرمن أصبحت الغالبيَّة منهم في وضع اقتصادي متوسِّط  وفوق المتوسِّط أو الميسور، فتوجهوا إلى الأساسيَّات الأخرى الضروريَّة للمجتمع كشؤون الشباب والرياضة وأسَّسوا النوادي والفرق الرياضيَّة ككرة القدم والسلة وتفوَّقوا فيها، كما أبدعوا في النشاطات الأدبيَّة والفنيَّة والثقافيَّة فأصبحت  لهم عشرات المسارح الخاصة والصالات التابعة للمدارس، يقيمون فيها حفلات الغناءالموسيقية الراقية والرقص الفولكلوري والمسرح..  إلخ، وكانت هناك أيضاً عشرات المنتديات الثقافيَّة تقام خلالها المحاضرات الأدبية وجوق الغناء الجماعي والموسيقى والأوركسترا بقيادة أساتذة تخرَّجوا في أرقى المعاهد الموسيقيَّة سواء في سوريا ولبنان أو أرمينيا أو من معاهد دول أخرى، وبذلك أغنوا الحياة الثقافيَّة في البلدان التي يقيمون فيها. غمرتني السعادة عندما قرأت عن قيام بعض الشخصيات الأرمنيَّة في دمشق بمشروع بناء نصب تذكاري أسموه «نصب الامتنان الأرمني للعرب» وذلك على طريق مطار العاصمة يريفان في أرمينيا، وفي زيارتي الأخيرة لأرمينيا شاهدت النصب عند المرور من جانبه وهو تحت الإنشاء. نعم فرحت جداً لأنَّه سيكون تجسيداً فعلياً  لما يشعر به الأرمني تجاه العرب، وأنا أحيي كل الشخصيات الاجتماعيَّة والدينيَّة التي وقفت وراء هذه الفكرة وتابعت تنفيذها من مالها الخاص ومن التبرعات التي جمعتها من الأفراد المتحمِّسين للفكرة وأنا واحد منهم بكل تواضع. نحن نتمنَّى أن نتمكن من بناء أضخم صرح أو أجمل نصب تذكاري امتناناُ لإخواننا العرب في كل بلد ومدينة عربيَّة واحدة تلو الأخرى، لنذكِّر ونتذكَّر هؤلاء الشهماء الذين مدُّوا يد العون وساعدوا الأرمني المهاجر المغلوب على أمره وهو مكسور الخاطر ووفَّروا له البيئة الصالحة للملمة جراحه والبدء من جديد في مسيرة الحياة وتقديم مساهمته العملية المخلصة في المجتمع الذي يعيش فيه والمجتمع الإنساني أينما كان بعد كل هذه المحن التي تعرض لها في بداية القرن الماضي. حب الأرمني لأخيه العربي لا ينضب أبداً لأنَّه ينبع من نهر الوفاء العظيم ويُعزز كل يوم من سواقي رد الجميل.