Mt. Ararat painting by Arthur Gasparyan 2013

لم يكن ممكناً أن تظل أحاسيسي عادية وأنا أمضي في السيارة على مدى ساعة تقريباً بمحاذاة جبل آرارات أو ماسيس بقمته المزدوجة في ذلك الصباح المشمس أثناء زيارتي الأخيرة لأرمينيا، بل كان الأسى يعتصرني والدمع في عيني على وشك أن يترقرق في كل كيلومتر أقطعه بجوار جبلنا الحبيب الشامخ. وأنا أشاهد على يميني بوضوح تام تفاصيل قمته العالية الهرمة البيضاء العظيمة الوقورة مع كتلة الغيم الكثيفة عند مستوى لحيته، وكأنها وقفت هناك لزيادة هيبته، وأرى سفحه ووديانه والحقول الخضراء المنتشرة حتى خصره.

وأرى أخاديد ذوبان الثلوج والسيول على جنباته، ولم أكن مبالغاً إذا قلت وكأني أرى دبيب قطعان الماشية ترعى على سفوحه الناعمة وأسمع صياح الديوك. يا له من منظر جميل أخَّاذ من خلقه سبحانه تعالى وأنعم به على هذا الجبل المقدس، وخصَّه بأن حطت عليه سفينة سيدنا نوح، ومنذ ذاك الزمن بدأت حياة الإنسان والمخلوقات من جديد، وعلى سفح ذلك الجبل ظهرت حمامة السلام وغصن الزيتون في منقارها وبدأت الحضارات وأنزل الرسل والأنبياء لما فيه صالح البشرية والخلق أجمعين.

ذكريات ووجدان الشعب الأرمني الذي يمتد تاريخه مع ذلك الجبل لأكثر من ثلاثة آلاف سنة بحلوها ومرها مرتبطة بجبل آرارات. فمن هناك عرف هذا الشعب الانتصارات والهزائم ورأى جحافل الجيوش وخبر الغزوات وعايش البيزنطيين والفرس والرومان والعرب والسلاجقة والروس والعثمانيين، فكلهم مروا من هنا وكلهم كتبوا وأرَّخوا وأدركوا أن هذه الأرض التي يقفون عليها والجبل الذي يطلُّ عليهم هي أرمينيا. لم يقل أحد غير هذا ولم تتضمن كتب التاريخ أمراً غير ذلك، فهذه حقيقة لا يملك أحد إنكارها.

كما انه معروف للجميع أن القمة الشامخة هي لجبل أرمني عدا الثمانين سنة الأخيرة التي، ولظروف معينة قاهرة، أصبح فجأة تركياً بعدما سلخ مساحات أخرى من أرض أجداد الأرمن لتصبح جزءاً من حدود تركيا الحديثة وعلى مرمى حجر فقط من أرمينيا الحالية (عرض مجرى نهر آراكس 50 متراً يفصل بين أرمينيا وجبل آرارات، تركيا الآن).

إن وجود جبل ماسيس خارج حدود أرمينيا والقبول به يشبه قبول العرب حدود القدس الشريف على حافة أسوار المسجد الأقصى وبينهم الجدار الفاصل.

حكايات وأساطير ومآثر تملأ الكتب والمجلدات عن قصص وملاحم خالدة لملوك وأمراء وأبطال الأرمن نسجت عبر الزمن عنه وعن تعلقهم وارتباطهم الروحاني بجبلهم العظيم الذي كان ولا يزال يمثل جزءاً من تاريخ الأرمن الوطني.

من الأغاني أعذبها ومن الأناشيد أشدها حماسة ومن الأشعار أجودها نظمت بالآلاف لتتغنَّى بجبل آرارات وتتغزَّل فيه، وأفئدة فطرت وقلوب سُرَّت وسعدت وعيون مشتاقة أدمعت للسبب نفسه.

كما ملأت صوره المرسومة على الأعلام الوطنية وواجهات دوائر الدولة وعلى صدر حائط كل بيت أرمني حول العالم علقت فيه صورته، مثلما علقت صورة المسجد الأقصى الشريف في بيوت المسلمين.

لا بد من أن يعود جبل آرارات رمز الخلود الأرمني إلى أصحابه قبل أن تمحى آثار أقدام الفلاحين الذين كانوا يجهدون خلف جواميسهم وهم يحرثون حقولهم على سفوحه في رضى تام من عطاء أرضهم وقبل أن يغيب صدى أغانيهم ومواويلهم (هوروفيل) ورقصاتهم في احتفالات الشكر (نافاسارت) التي كانوا يقيمونها في نهاية موسم الحصاد من كل عام منذ فجر التاريخ.

لا بد من أن يعود الشعب الأرمني إلى جبل آرارات ويعيش في أحضانه المليئة بعبير أزهار الاقحوان والبابونج والليلك الأحمر، وتعود الأجيال الفتية بدلاً من أن تتشتَّت حول العالم في أراض غريبة كانت أو صديقة.

لا بد من أن يستجيب القدر ويعود الحق إلى أصحابه وتلغى الشروط المجحفة التي فرضت على الشعب الأرمني مجبراً وهو في حالة عجز بين قوتين جبَّارتين وهما تركيا وروسيا في ظروف اقليمية شديدة القسوة.

لا بد للحدود من أن تزال وترسم من جديد بحيث تحتضن أرمينيا أراضيها التي سلبت منه وعلى رأسها جبل آرارات لينتهي بذلك احتلال جبلنا العزيز أحد أحب مقدساتنا وينتهي معه أنينه وغربته وحزنه، ويملأ الحبور قلوب الأرمن المفطورة لفقدانه، وتزال الغصة والمرارة عنهم ويعيدون العيش المشترك مع بقية القوميات التي كانت تقيم هناك ويكملون الحضارة الراقية التي أسسوها منذ أيام الفراعنة وقورش الفارسي وسميراميس الآشورية.

وكما قال الشاعرالعربي أبو القاسم الشابي:

«إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر».

وكذلك الأرمن يرفعون الدعاء وكلهم إيمان وتفاؤل بالقول «ولا بد أن يستجيب القدر».

 

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 12-11-2008

       وجريدة «القبس» بتاريخ 14-11-2008.