في الذكرى الثانية والتسعين، وفي 24 أبريل من كل عام، ولكي لا تمر مثل هذه المناسبات دون تذكير الضمير العالمي بأول إبادة عرقية في التاريخ الحديث، ولكي يبقى الحدث بارزاً وناقوساً يذكِّر الناس بما حدث في تلك الفترة السوداء من تاريخ الإنسانيَّة، والأهم، لكي لا تتكرر، فعلى المجتمع الدولي والقوى الكبرى واجب حض النظام التركي على التجاوب مع متطلبات العدالة والسلام العالميين من حيث نزع فتيل احتمالات الصدام مهما كان شكله وحجمه.

Photo credit The New York Times

  الأتراك بإنكارهم القضية الأرمنية يزيدون بؤرة توتر إضافية في المنطقة المتوترة والمضطربة أصلاً، التي لا تنقصها مشكلة إضافية تعكِّر البيئة.

الأرمن لن يتخلوا عن حقوقهم التاريخية الثابتة المرتهنة لدى الأتراك إطلاقاً، ومهما طال الزمن ومهما زادت المحن فإن الثمانية ملايين أرمني المنتشرين حول العالم يعملون دون كلل، وكل في موقعه لاسترجاع الحق المغتصب والكرامة المهدورة من قبل الأتراك، وبوجود نصف هؤلاء بصفة محامين ملتزمين بقضيتهم والدفاع عنها والنصف الآخر كجنود لخدمة القضية أو عمال لها يملؤهم الفخر والأمل مؤمنين بأنه لن يموت حق وراءه مطالب.

إن الأرمن استوعبوا دروس العصر الحديث في ملاحقة القضايا السياسية والوطنية البعيدة عنهم أو القريبة منهم، ومستفيدون من العبر عن نتائج كل ثورة أو أزمة أو انتفاضة حدثت فيه، وما نتج منها في ضوء الأسلوب الذي أتبع للخروج منها، وكذلك نعرف الأسلوب الذي نتوقع أن يتبعه المجتمع العالمي المتحضِّر منهم في ضوء وضع المنطقة السياسي والاجتماعي ويعملون بموجبه، ولكن ما النفع إذا كان الطرف الآخر له مواقف متحجِّرة خالية من أي نية لقبول الرأي الآخر، والمقصود هنا رأي الكثير من حكومات دول العالم أو برلماناتها، وآخرها ولاية أوهايو في الولايات المتحدة وهي الولاية 40 من أصل 51 ولاية اعترفت بالواقعة، والدعوات العديدة من رؤساء دول عظمى وصغرى إلى تركيا لقبول الاعتراف الرسمي بالمجازر التي ارتكبها أسلافهم العثمانيون مطلع القرن العشرين.

إنهم ينكرون فاجعتنا !

كنت في هانوفر في ألمانيا، في معرض الصناعات المتقدِّمة، فشاهدت الحضور المميَّز للصناعات التركية المشاركة في أجنحة المعرض، وهذا شيء جميل ولا شك، ولكن في الوقت نفسه كانت الشاشات تبث الحريق في ملاطية والذبح الوحشي لثلاثة من الأقلية يعملون في مطبعة حسب القوانين التركية، ومن قبلهم قتل الكاتب الأرمني هرانت دينك برصاصتين في رأسه أمام مطبعته أيضاً للأسباب نفسها وهي عدم قبول الرأي الآخر.

حالة محيرة مع الأتراك وهم من جهة يدَّعون دخولهم حالة تحضر تقارب أوروبا في مستواها، ومن جهة أخرى يطغى عليهم التعصب وكراهية الآخر وهيمنة مبطنة للظلم والطغيان تجري على أراضيهم وعلى مسمع ومرأى منهم، وتهيمن عليهم أحلام التفوق الطوراني والشوفينية التي تتعزز أكثر وأكثر كلما اقترب موعد إحتمال قبولهم في الإتحاد الأوروبي. فعند تشييع جثمان الأديب هرانت دينك في استنبول مثلاً خرجت مجموعات كبيرة من المفكرين، ومنهم الأديب أورهان باموك الحائز جائزة نوبل للآداب وجمع غفير من المواطنين الأحرار يرفعون لافتات تندِّد بمقتل صاحب القلم الحر، ولافتات وهتافات تقول «كلنا أرمن، وكلنا هرانت دينك» في إشارة إلى تأييد أفكار وخطى هرانت دينك الذي كان يطالب بفتح قضية الأرمن على الملأ في الأوساط الرسمية التركية… حقاً إنها أحداث متناقضة تماماً مع ما يدعون.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 24-4-2007.

هذه المقالة كانت بمناسبة الذكرى الثانية والتسعين لذكرى الإبادة الأرمنية وركَّزت فيها على التأكيد أن الأرمن لن يتخلُّوا عن حقوقهم التاريخية الثابتة مهما زادت المحن والصعوبات الإقليمية من كل جهة، أكَّدت كذلك أنَّه لا يضيع حق وراءه مطالب، وعرجت على حادثة اغتيال الشهيد هرانت دينك وتبعاتها، وكان قد اغتيل قبل فترة وجيزة.