«نشجِّع المؤرِّخين والخبراء على البحث في التاريخ المشترك بين تركيا وأرمينيا». هكذا كان عنوان الرسالة التي بعث بها سعادة السفير التركي شاكر فاكيلي لجريدة «القبس» ونشرت يوم 1-6-2008 على صفحة كاملة ومذيلة بتفسير «البعد القانوني للموضوع». جاءت الرسالة حسب ما أوضحته «القبس» رداً على بعض المقالات التي نُشرت في الجريدة، منها المقالة التي كنت قد كتبتها في «القبس» يوم 25 أبريل بعنوان «قضايا الأتراك وقضايا الأرمن»، حيث كنت قد أوضحت فيها بعض الحقائق التاريخية الثابتة في السياق نفسه، وكنت قد طالبت الحكومة التركية بالاعتراف بالمجازر. وتجنب سعادة السفير التطرق إليها وأخذ الموضوع إلى منحى أراد فيه أن يغلب عليه الطابع التاريخي والتوثيقي لكسب المصداقية ليس إلاَّ، على أي حال حبذا لو كان سعادته تأنى في كتابته قبل نشرها لتجنب التناقضات والتكرار. نبدأ بالعنوان: يقول السفير بأن حكومته تشجع المهتمين بالبحث في التاريخ التركي-الأرمني، ويقول أيضاً بأن الأرشيفات العثمانية وما بعدها متاحة للجميع دون قيد أو شرط إلخ. وهنا السؤال يفرض نفسه. أولاً، لماذا أجَّلتم فتح الأرشيف لمدة 80 سنة، رغم طلبات الاطلاع العديدة التي تقدم بها لكم الأرمن وجهات أكاديمية محايدة عديدة دون جدوى ؟ ثانياً، نتساءل ماذا سيحدث للباحث إذا أخذته قناعته بأن ما حدث في الفترة بين 1915-1918 كان إبادة جماعية ومجزرة كاملة الأوصاف ! حينها كيف يتصرف ؟ هل يكتفي بالاحتفاظ بما اكتشفه لنفسه ولن يبوح به لأحد، أم ينطق به أو ينشره علناً، ويعرِّض نفسه للمحاكمة بموجب القانون التركي رقم 301 الساري حتى اليوم، والذي يعاقب كل من ينطق على الأرض التركية حتى بمجرد كلمة المذابح الأرمنية أو يتعرض لسمعة الدولة التركية أو ينتقدها بأي شكل. فعلى سبيل المثال لا الحصر ما حدث مع الأديب الكبير الحاصل على جائزة نوبل للآداب أورهان باموك وغيره الكثيرين الذين يجرجرون إلى المحاكم مراراً لتصريحاتهم بوجوب الإعتراف بالأحداث، أو يتعرضون للاغتيال مثل صاحب جريدة «أكوس» المرحوم هرانت دينك الذي وقع صريعاً أمام مطبعته في وسط استنبول للسبب نفسه ؟ هل الدعوة مفتوحة لهؤلاء الباحثين الذين سوف يخرجون بأبحاث تسر الحكومة التركية فقط لا غيرها مثلاً ؟ هذا ما لم يوضحه سعادة السفير، ولم يأتِ على ذكر تأمين سلامة الباحث قانونياً.

الأحياء الناجين من الابادة. هذه العيون رأت الأبادة.

أما ما يخص موضوع رسالة رئيس وزراء تركيا إلى رئيس أرمينيا كوتشاريان بخصوص رغبته في دعوة مؤرِّخي الدولتين للبحث في الفترة التاريخية تلك واصدار تقريرهم عنها إلخ، وهنا أيضاً تجاهل الكثير من الحقائق المهمة، أولها أن تركيا رغم اعترافها بالدولة الأرمنية منذ زمن بعيد لكن ويا للأسف يمنع إقامة علاقات دبلوماسية رسمية معها لغاية اليوم، ويشترط شطب كل ما يخص المجازر في ذاكرة الشعب، وكذلك في العلاقات الديبلوماسية المتبادلة معها أو مع غيرها قبل بدء العلاقات الرسمية، وفوق هذا تحاصر أرمينيا اقتصادياً ظلماً وتغلق عليها جميع الطرق الدولية السالكة ووسائل المواصلات الأرضية مع العالم الخارجي، وتشترط الشروط نفسها قبل فك الحصار، رغم أن الدولة الأرمنية أعلنت مراراً، وتجاوباً مع دعوة رئيس الوزراء، بأن ليس لديها مانع في تشكيل أي لجنة للبحث في موضوع التاريخ المشترك، ولكن دون شروط مسبقة ولي الذراع الجائر، بل حسب المعايير الدولية الرسمية بين بلدين ذوي سيادة ليكتسب العمل شرعيته في المقام الأول. إذاً موضوع استعداد الحكومة التركية للبحث في العلاقات المشتركة مردود عليه أيضاً وفي انتظار الجواب.

الأرمن يعرفون كما يعرف الجميع بأنك إذا أردت تمييع قضية ما ولكلكتها، فما عليك إلاَّ أن تحولها إلى الخبراء، فهم أحسن من يتفذلكون وأخبر من يماطلون ويؤجلون صدور الحكم إذا ما أرادوا ذلك. فإذا كانت قضية نزاع تجاري على بضعة آلاف من الدنانير أو خلاف على قطعة أرض صغيرة تأخذ من الوقت سنوات عديدة في المحاكم، فما بالك بقضية شعب قتل منه 1.5 مليون انسان وتشرد مثلهم ؟ حقوق اغتصبت وأملاك سلبت، إذاً كم من الوقت سوف يستغرق ذلك ؟ والأهم من هذا وذاك، من هي الجهة التي سوف تقبل بتقرير الخبراء وبتطبيقه على نفسها ؟ لا شك في أن الأرمن يقبلون ذلك، ولكن ماذا عن الطرف التركي ؟ إن دعوة السلطات التركية لفتح الأرشيف ليست مذيلة بقبول مقتضيات نتائجها كاملةً أو حتى استعدادهم إرضاء الطرف المتضرر، بل تكتفي بأن «تقوم هذه اللجنة بنشر اعلان ما توصل إليه للعالم أجمع» كما جاء في ذلك المقال حرفياً. ثم ماذا ؟ وما الفائدة من كل هذه الضجة في نهاية المطاف ؟ هل هي ذر الرماد في العيون أم الرجوع إلى المربع الأول بعد 93 سنة من الألم ؟ من المؤكد أن هذا بالضبط ما يسعى إليه الطرف التركي «المماطلة». الأرمن لا يقبلون دعوة ملغومة كهذه وهم ليسوا على هذه الدرجة من السذاجة، أما ما يخص بقية الأفكار والمفردات التي أتت في المقالة مثل «انتشر الأرمن في أرجاء الأراضي العثمانية، وتطلعات العصابات الأرمنية المختلفة مثل الهنشاك والطاشناق وإن الهدف المشترك بينهما كان إنشاء دولة أرمنية صافية من الناحية العرقية والسياسية تتشكل على الأراضي العثمانية وتشمل المناطق التي يعيش فيها الأرمن إلخ». وهنا يجب وضع خط عريض تحت كلمة «الأراضي العثمانية» حيث أن الأراضي المقصودة ليست إلا ملكاً أصيلاً للشعب الأرمني منذ 3 آلاف سنة وقبل وصول جحافل السلاجقة والتتار، ومن ثم العثمانيين إلى المنطقة، واحتلالها وتدمير حضارتها الراقية بألفي سنة، وإن العصابات المقصودة ما كانت إلاَّ حركات ومجموعات وطنية استقلالية مشروعة غايتها التحرر من نير الاحتلال والاذلال التركي لهم والتخلص من بطش البكوات والباشوات لأهلهم واستباحة عرضهم طوال ستة قرون وللحفاظ على هويتهم وكرامتهم المهدورة لإرضاء نزوات أبسط مختار وجندرمة عثماني في وسط بيته أو حقله وعلى أرض أجداده، ولم يكونوا عملاء أو خونة كما يروِّج الأتراك.

أما في نهاية المقال الذي يفسِّر مبررات قيام السلطات التركية بتهجير الأرمن المقيمين في ساحة الحرب إلى مناطق أخرى آمنة، وكذلك موضوع نزاهة الحكومة في محاكمة قتلة المهجَّرين والمنظِّمين له والقائمين عليه واعدام 67 شخصاً من المسؤولين منهم، وكذلك بعض المعلومات الأخرى في السياق نفسه لا يترك شكاً بأن الواقعة حدثت فعلاً بغض النظر إذا كان مخططاً لها مسبقاً أو كانت نتيجة ظروف معينة، حيث في الحالتين النتيجة كارثية بأبشع صورها، حيث تم تهجير حوالي 3 ملايين شخص واقتلاعهم من جذورهم وتسفيرهم إلى أماكن أخرى بعيدة، حتى لو كان ذلك بحسن النية جدلاً.

والثابت أنهم قتلوا في الطريق أو مات نصفهم ونصفهم الآخر تشتت في أصقاع الأرض، وتم الاستيلاء على بيوتهم وحقولهم وجميع أملاكهم ولم تبقَ منهم عائلة واحدة في المنطقة برمتها، وهذه الحقيقة لن يستطيع تفسيرها أي جهة أو شخص ذي نزاهة، إلا بالتأكيد على ما سبق.

أما ما يخص الجزء الخاص بالبعد القانوني للموضوع في نهاية المقال فالتفسيرات التي جاءت في المذكرة لا تنفي تطابق ما حصل للأرمن من قبل العثمانيين مع الإبادة العرقية. وهنا نستشهد بالوقائع، حيث الخبراء القانونيون والدستوريون في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم توجد فيها جالية أرمنية أو لم توجد، وأكثر من 40 ولاية أميركية لم يستطيعوا أن ينكروا قانونية ودستورية قبول الحادثة كمجزرة وإعلان يوم 24 أبريل في كل عام يوم ذكرى الإبادة الأرمنية في بلدانهم أو الاعتراف العلني بالحادثة بنفس الصيغة. ولا أظن أن برلمان دولة مثل فرنسا أو ايطاليا أو لبنان أو غيرها من الدول سوف يجازف بمصداقيته وبسمعته بإعلان بيان غير شرعي أو غير قانوني اعتباطاً، ما لم يستشر الخبراء الدستوريين والمؤرِّخين في بلده قبل الإقدام عليه.

القضية واضحة وضوح الشمس وصريحة كضحكة الطفل لا تحتمل المراوغة ولا التسويف، بل كل ما يحتاج إليه الأمر هو وقفة جريئة وشهمة مع الذات والإقدام على الاعتراف بما حدث كمجزرة لفتح صفحة جديدة مضيئة، لما فيه خير ورفاهية الشعبين لا أكثر.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 11-6-2008 

    وفي جريدة «النهار» بتاريخ 16-6-2008.


كان لسفير تركيا السابق في  الكويت السيد شاكر فاكيلي في الفترة الممتدة من 2004 إلى 2008 صولات وجولات معي ومع مقالاتي التي كانت تشكل نوعاً من الدفاع الهجومي على تصريحات زعماء تركيا المتكرِّرة والمسيئة إلى قضيتنا نحن الأرمن، وذلك من خلال الشاشات العالميَّة أو في الصحف المحلية. وكلما أردت تصحيح معلومة مغلوطة أدلى سعادته أو أسياده بها، كان هو يردُّ على مقالاتي بدون ذكر اسمي، بل يكتفي بتسميتي «صاحب المقال المنشور في الجريدة الفلانية في التاريخ الفلاني»، وبعد تحية رئيس تحرير الجريدة، يبدأ بإعادة اسطوانته المشروخة مكرِّراً الكلام نفسه  الذي تعودنا أن نسمعه منه دائماً، ومن ذلك  أن ما جرى للأرمن لم يكن تهجيراً أو إبادة، بل إنهم نُقلوا من جبهات القتال إلى أماكن آمنة، وأنهم – أي الأرمن – تواطأوا مع الروس ضد الدولة العثمانية وخانوا العثمانيين، وإن الدول التي اعترفت صراحة بالمذابح الأرمنيَّة حتى لو كانت أوروغواي في أمريكا الجنوبية، لها مصالح انتخابية، إلى غير ذلك من الردود التي ما كان ممكناً لنا ولا لأحد غيرنا تصديقها لعدم تطابقها مع المنطق العام أصلاً، وما كان يفوت أي قارئ نبيه أن يتساءل: كيف يدَّعي السفير أن ما أصاب الأرمن لم يكن تهجيراً قسرياً أو إبادة مع سابق الإصرار والترصد، فيما لم  يعد أحد من أولئك  المنقولين إلى بيته بعد انتهاء الحرب وطوال التسعين سنة التي تلت النقل الجماعي «الآمن» كما يدَّعى  سعادته  كل مرة ؟. وكانت هناك اسطوانة مشروخة أخرى للسفير وهي أنَّ الأرشيف التركي مفتوح أمام جميع المهتمين ولا وجود لما تخفيه الحكومة التركية من تاريخها العثماني والسنوات التي تلت سقوط الإمبراطورية لغاية حكم أتاتورك، علماً أنَّ الجميع يعرف أن الأرشيف التركي فتح بعد ثمانين عاماً فقط من الحرب العالمية الأولى، رغم الطلبات الملحَّة من الباحثين المحايدين، وذلك بعد مرور خمسين عاماً من الأحداث وهي الفترة المسموحة والمعروفة عالمياً لإبقاء أرشيف الدول مغلقاً أمام المهتمِّين لأسباب أمنية. ويعلم الكل أن الأرشيف سحبت منه أي مستمسكات أو شوائب أو شبهات قد تدين الأتراك، وبعد «تنظيفه» كاملاً  فقط فتح أمام المختصين، والقول بأن الأرشيف مفتوح أمام الجميع ضرب من العبث، حيث لا يستطيع أي شخص النطق بكلمة «مذابح» أو «إبادة» على الأراضي التركية، وإلا يحاكم بموجب القانون301 للعقوبات المستحدثة.

أتذكَّر مقابلتي الأولى مع السفير شاكر فاكيلي بمناسبة الإحتفال بيوم جلوس ملك بلجيكا، وذلك في حديقة منزل السفير البلجيكي في الكويت.

كنت من المدعوين، وكذلك كان السفيران التركي والآذيري الذي كنت أعرفه  مظهراً، لأنه كان يظهر كثيراً على صفحات الجرائد في مناسبات كثيرة ويهاجم الأرمن فيها وينعتهم بأبشع الصفات. وفي أثناء الحفل في حديقة السفارة حيث جرت العادة أن يتقدَّم الضيوف المحتفلون إلى بعضهم للسلام ولتعريف أنفسهم وتبادل عبارات المجاملة الروتينية، عرَّفني صديق صحافي كنت أتحدث إليه في تلك اللحظة بالسفير التركي، وما إن نطق باسمي للسفير حتى ثار المذكور وتغيَّرت ملامحه وأخذ يوجِّه كلامه لي بعصبية لم أتوقَّعها من دبلوماسي رزين: «كيف يمكنكم أنتم الأرمن بدون استحياء وضع صورة جبل لا يخصكم (يقصد به جبل آرارات المغتصب طبعاً) على شعاركم الوطني، أنتم الذين خنتم دولتنا، وإنَّكم معتدون… إلخ، ورددت عليه بدوري، وما إن انتهيت من الرد على كلامه بأنَّ ذلك الجبل هو جبل يخصنا، وهو لنا منذ آلاف السنين، عشنا وتربينا على سهوله وارتوينا من ينابيعه وأنَّه لنا نحن الأرمن حتى لو كان اليوم يقع ضمن  حدود أراضيكم المصطنعة، حتى التفت إليَّ وقال بلهجة مبتذلة جداً بالانجليزية: إنه إذا كان الأمر كذلك إذاً: «come and take it»، أي: «تعال وخذه»، وفي تلك اللحظة، وربما بعد سماع مشاجرتنا، تقدَّم السفير الآذيري موجهاً كلامه إليه بالتركية: «ماذا هناك يا أخي؟»، فردَّ عليه السفير التركي قائلاً: «انظر ماذا يقول هذا الأرمني، يدَّعي أن جبل «أغري» يخصهم هم الأرمن إلخ»، وإذا بالسفير الأذيري يتدخَّل بالحدة نفسها في النقاش معي مدعياً أنَّ الأرمن احتلوا أراضيهم وشرَّدوا شعبهم وأنَّهم معتدون وهمج وظلمة إلخ، وطبعاً كان ردِّي عليه بنفس الحدة، وقلت له إن ما يدعيه غير صحيح وبعيد جداً عن الواقع، وإن الأرض هي أرضنا نحن الأرمن وظلت تحت إدارتهم بموجب ترتيبات الدولة السوفييتيَّة وزعيمها ستالين لمدة سبعين عاماً، وإنكم خلالها ظلمتم واستعبدتم شعباً وأبقيتموه فقيراً محروماً. لقد غيَّرتم جميع ملامح حضارة بلدنا غاراباغ وقضيتم على معالم آثارنا وحضارتنا والآن حان الوقت لتحرير وطننا  ورفع الظلم عنه وهذا ما فعلناه ليس إلا. وهكذا، وبعد تبادل الاتَّهامات المتشنِّجة الأخرى بدأ  الزحام وذهب كل منا إلى سبيله أو انشغل بضيف آخر، لكنَّني لم أنسَ تلك النظرات العدائية التي كنت أتلقَّاها منهما كلما صادف نظري نظراتهما خلال تلك الحفلة.