لا يموت حق وراءه مطالب. كلام جميل وصحيح لا شك. ولكن متى يعود الحق ! وبأي ثمن ؟

بمناسبة اعتماد لجنة الشؤون الخارجية للكونغرس الأميركي القرار رقم «106» الداعي إلى اعتماد وصف ما تعرَّض له الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى على يد الأتراك بأنه بمنزلة «إبادة»، وان الضجة والاستنكار المصاحبين له من قبل بعض الأفرقاء والزعماء الأتراك بوجه خاص يوجبان تبيان بعض التوضيحات لحدث فرض نفسه وما كنت راغباً في تكراره.

Photo credit Los Angeles Daily News

  منذ 90 عاماً الأرمن كضحايا والعالم الحر بأجمعه كشهود يطالبون جاهدين باعتراف الأتراك وقبول واقعة الإبادة العرقية التي تعرَّضوا لها والتي بدأت في زمن نظام السلطان عبد الحميد العثماني واكتملت على أيدي نظام «تركيا الفتاة» الانقلابي، الذي خلال أقل من 10 سنوات من حكمه وقبل وصول مصطفى كمال أتاتورك للحكم قضى على الشعب الأرمني في شرق تركيا وهم أصحاب الأرض الأصليون منذ 3 آلاف سنة قبل مجيء الأتراك بألفي سنة محاولاً تحقيق الرغبة التي كانت تراود العثمانيين في العقود الأخيرة من حكمهم وهي القضاء على الشعب الأرمني الذي كان يستوطن الحدود الشرقية من الدولة العثمانية مشكلاً حاجزاً جغرافياً لتحقيق الحلم العثماني التوسعي لربط تركيا ببقية الدول ذات الأصول التركية في الشرق ولغاية حدود الصين شاملاً بحر قزوين وتأسيس الامبراطورية الطورانية بعد انقطاع السبل بهم من حيث التوسع في إتجاه الغرب.

العالم كله يستغرب من الحكام الأتراك عدم اعترافهم بالقتل الجماعي الذي حدث في خضم الحرب العالمية الأولى تحديداً في سنة 1915 على الرغم من اعتراف أكثر من 23 دولة من دول العالم بالواقعة، ويتساءل عن الأسباب: وهل عدد 1,5 مليون نسمة رقم ضئيل لا يستأهل بنظرهم كل هذه الضجة ؟

العالم ضاق صدره وفاض قائلاً وهو خائف من تكرار الواقعة إذا نجا الفاعل بفعلته ! إلى متى سوف يحجب ضوء شمس الحق من سماء العدالة الإنسانية المتمدنة وتتجمد العدالة… أما آن الأوان لصحوة الضمير ؟

ماذا جرى للمسؤولين الأتراك وهم يتلاطمون من جهة إلى أخرى في المنابر الدولية هذه الأيام، مرة بالتهديد والوعيد لمصالح الدول الراغبة في الاعتراف بمجازر الأرمن، ومرة في محاولة لثني الدول في دوائر صانعي القرار عن التصويت لمصلحة الاعتراف أينما كان. مرة بنشر دعايات ليس لها أصل ومنطق ولا يصدقها أحد عن عدم حدوث المجزرة والحجج الواهية المصاحبة لها. اطلعت من أحد مصادر الأخبار التي نشرت أخيراً على أن تركيا تصرف الملايين منذ سنوات للتأثير في مواقف المشرِّعين الأميركيين مبالغ طائلة ذهبت أدراج الرياح بعد التصويت الأخير للجنة الخارجية للكونغرس الأميركي مشكورة جزيل الشكر، وذلك في يوم 10 أوكتوبر 2007، بأن ما حدث للأرمن يصل مرتبة المجزرة وقريباً كامل أعضاء الكونغرس (مشكورين سلفاً) سوف يصوِّتون للقرار نفسه ويظهر الحق مرة أخرى إن شاء الله، وكل هذا رغم تدخلات المسؤولين الشخصية على مختلف المستويات للسبب نفسه، ناهيك عن دفعهم الرئيس الأميركي جورج بوش ووزيرة خارجيته ووزير دفاعه للتدخل شخصياً، وهذا ما حصل فعلاً قبل ساعات من موعد التصويت، لمنع أعضاء الكونغرس من التصويت باستماتة، وتهديدات ووعيد للمصالح الأميركية في المنطقة لا سابقة لها والتي نخشى أن تأتي بمفعولها، ويجعل المشروع الأميركي يميل رغماً عنه مع الأسف باتجاه ما يتناسب مع الوضع العسكري الأميركي الحساس في العراق هذه الأيام، ومن الممكن أيضاً ألا يطرح المشروع للتصويت أصلاً.

يتوقع الأرمن والعالم ألا يكترث الرئيس بوش وادارته بتهديدات تركيا والابتزازات المهينة المستمرة مثلما لم يكترث بتهديدات الصين قبل وأثناء استقباله للزعيم الروحي للتيبت دالاي لاما وتقليده أرفع وسام أميركي الاسبوع الفائت لمواقفه النضالية لأجل قضيته وبلده التيبت، مترفعاً عن مصالح أميركا السياسية والاقتصادية في سبيل مواقف أخلاقية رفيعة، مع التأكيد أن موجبات تكريم الزعيم دالاي لاما ليست أهم من إبادة 1,5 مليون أرمني ظلماً، كما أن تركيا ليست أكبر شأناً من الصين.

ومع ذلك أليس من الأفضل لتركيا الإعتراف بالواقعة والدخول في عملية مصالحة مع الأرمن وإنهاء العداوة المستشرية منذ قرون بينهم وبين جارهم على الحدود الشرقية المسالم الراقي خلاف ما يحدث في المحافل الدولية المتغيرة أبداً ؟

ألم يكن أجدى لهم الخروج من نفسية المدان في نظر غالبية الدول المتحضرة وبرلماناتها وشعوبها وتغييرها إلى نفسية الدولة الشهمة المعترفة بأخطائها والمستعدة لتصحيحها وإعطاء كل ذي حق حقه، وشطب فصل أسود من تاريخها في محاولة جريئة منها مثلما فعلت بعض الشعوب الراقية قبلها مثل (ألمانيا – اليابان – ايطاليا) وتواجه حقائق ماضيها ؟

والجدير بالذكر في هذا السياق أن الاعتراف الرسمي الأول قضائياً بحدوث المجزرة وبشاعتها كان من القضاء الألماني في 2 يونيو1921 قبل 86 سنة من القرار الأخير عندما برَّأت لجنة المحلَّفين والمحكمة الألمانية المواطن الأرمني صوغومون طهليريان لقتله بالرصاص طلعت باشا في وضح النهار في مدينة برلين، حيث وبإختصار وجدت المحكمة أن القتيل كان الرئيس المنفي لحزب الإتحاد والترقي الحاكم في تلك الفترة، وكان هو الرأس المدبِّر للقتل الجماعي مع باقي زملائه في الحكم (أنور باشا – جمال باشا (السفاح) – ناظم باشا)، الذي تعرَّض لها أهل المتهم، وأخذت المحكمة بعين الاعتبار النفسية التي كان يمكن أن يكون عليها من يتعرض لمثل تلك الفظاعة، وإن المرافعات كانت سياسية الطابع أكثر منها جنائية دانت القتيل والظروف التي أحاط نفسه بها، وبرَّأت القاتل وأطلقت سراحه، وهذه المحاكمة تذكرنا بمحكمة نورنبرج في أوروبا التي شكلت لمحاكمة الحكام النازيين بعد الحرب العالمية الثانية.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 24 و25 -10-2007 

       وفي جريدة «النهار» بتاريخ 24-10-2007.