ما انفكت الجهات الرسميَّة والإعلاميَّة التركيَّة، تدّعي أن رؤساء الدول الأوروبية، ومختلف دول العالم، والأحزاب الحاكمة فيها، يتعاطفون مع الأرمن، وأنهم يمررون القرارات ويطلقون البيانات والتصريحات لصالح القضية الأرمنية “لأهداف انتخابية أو مصالح حزبية مع الجالية الأرمنية المقيمة في بلدانهم، وليس إيماناً بعدالة قضاياهم”.

لكن الجميع يعلم أن هذه الحجة غير مقنعة ولا  منطقية في أدنى درجاتها، لأنه حتى أكثر الدول الأوروبية كثافة من حيث تعداد أفراد الجالية الأرمنية لا تشكل ربع عدد تعداد أفراد الجالية التركية، بل في بعض الدول عدد الأتراك والمحسوبين عليهم أحياناً ربما يشكل 20 ضعف عدد الأرمن، بدءاً من فرنسا مروراً ببلجيكا وهولندا وألمانيا وصولاً إلى السويد وغيرها من الدول الأوروبية، التي بصيغة أو بأخرى اعترفت بالمجازر المرتكبة بحق الأرمن في بداية القرن العشرين، والكثير منها أعلن يوم 24 من أبريل من كل عام ذكرى يوم أليم في أجندة التواريخ المميزة في دولتهم، وياللمصادفة… فأن بعض الدول لا توجد فيها جاليات أرمنية أصلاً، مثل هنغاريا وسلوفاكيا!

الوضع نفسه في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية حيث ان 40 ولاية وآخرها ولاية أوهايو من أصل 51 ولاية اعترفت بالقضية صراحة، رغم جميع أشكال الضغط التي مارستها الدولة التركية «الحليف الحميم» لأمريكا وبرغم المبالغ الطائلة التي تصرفها الخارجية التركية على وسائل الإعلام لإيقاف إجراءات تمرير تلك القرارات في مجالس الولايات.ثم كيف يبرر النظام التركي أو يقبل العقل احتمال أن يتغاضى المشرعون المنتخبون تعرض مصالح بلدانهم لأضرار اقتصادية وسياسية هائلة نظير احتمال عداوة تركيا لهم لهذا السبب، من حيث مقاطعة بضائعهم التي تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً بيعاً أو شراءً، بجانب مصالح استراتيجية سياسية، وهذا ماحصل في المرات السابقة.

السؤال: لماذا تفعل تلك الدول هذه الأعمال؟ هل هي فعلاً بعض أصوات انتخابية وهل صوت الأرمني الواحد بعشرة عند التصويت، وهل صوت الأرمني هو «بيضة القبان» مثلاً؟ لا أحد يظن بهذه الفرضية، ولا هم مقتنعون بذلك، ولا يوجد شخص لدية أقل دراية في الأمور السياسية والجغرافية يصدقها، والجميع يعرف الحقيقة الأخرى التي لا يريد النظام التركي معرفتها.

وتطرح الحكومة التركية و سفراؤها حول العالم وعلى جميع المنابر، بقصد إحراج الأرمن، ايضاً حكاية تشكيل لجنة من المؤرِّخين لدراسة موضوع الإبادة، وتقترح أيضاً استخدام الأرشيف الحكومي التركي لتلك الحقبة للتأكد من وقائع الأحداث والمستندات                                                                                                                         المتوفرة فيه وتشكيل لجنة من الباحثيين والمؤرخين، وتتهم رئيس جمهورية أرمينيا السابق السيد روبير كوتشاريان بعدم الاستجابة لذلك الأقتراح الذي أرسله سنة 2005 رئيس الوزراء التركي السيد رجب أردوغان إلى الرئيس الأرمني.

نعم، هم يكررون ذلك على الرغم من أن الرئيس الأرمني كان قد رد على السيد أردوغان، بأنه لا نفع في بدء مثل هذه الفعالية قبل بدء علاقات طبيعية ديبلوماسية مع تركيا الجارة أولاً، والتي تمتنع عن تطبيق الأصول الدبلوماسية المرعية منذ استقلال أرمينيا قبل عقدين من الزمن، وعلاوة على ذلك تفرض حصاراً كاملاً وجائراً على دولة أرمينيا مع حليفتها أذربيجان من الطرف الآخر للحدود.

على القارئ أن يتخيل ما المقصود من الإعلان أن الأرشيف التركي مفتوح للباحثين والمؤرِّخين، وما زالت قوة القانون الجنائي التركي 301 سارية حتى الآن، والتي تمنع وتحاكم فوراً المتحدث عن القضية الأرمنية بأي صيغة كانت، (مشابه للقانون الفرنسي الذي اجهض مؤخراً مع الأسف ) أو يذكر كلمة «المجازر» على لسانه !

 إذاً، ماذا سيكون مصير الباحث الأجنبي او التركي المحايد إذا خرج بإعتقاد أو بقناعة جازمة بصدق حدوث المجازر؟ هل سيدخل السجن؟ و كيف سيضمن سلامته من القوميين الأتراك المتشدِّدين؟، وكما بات معروفاً للمختصين، فمن الأرجح أن الأرشيف التركي تم «ترتيبه» وتطهيره خلال أكثر من 80 سنة بعد الأحداث حسب رأي حتى بعض الخبراء الأميركيين وغيرهم، وتم فتحه للمعنيين قبل بضع سنوات فقط،  وفي هذا المناسبة يحضر المثل “هل يدعو البستاني الدب إلى كرمه قبل قطف ثماره”؟

من هذا المنطلق، فكل الناس برأي الأتراك مخطؤون، وهم وحدهم الصائبون، لكن هل ينطبق الأمر على رأى جاء من داخل البيت التركي نفسه، وهو البروفسور التركي الشهير والمتخصص في المسألة الأرمنية تانار اكشام، الذي قال أخيراً لمراسل جريدة «طرف» التركية «اذا أنت كذبت عن االقضية الارمنية طوال تسعين عاماً، فلا يمكنك في العام الحادي والتسعين أن تكون صادقاً». 

نشرت في الطبعة الأولي من الكتاب