«عيوننا إليك ترحل كل يوم»

رغم أنَّني كنت قد بدأت جمع أفكاري للشروع في هذه المقالة قبل 31 آب – أغسطس الماضي، تاريخ إعلان توقيع مسودة بدء العلاقات الديبلوماسية بين أرمينيا وتركيا، مع ذلك لا أظن أن المقالة سوف تعتبر وكأنها جاءت «بعد فوات الأوان» لأن الروح الدافعة للمقالة ما زالت قائمة وستظل حتى بعد تطبيق مسودة الاتفاقية التي أعلنت أخيراً. إذا طبقت دون تعديل، وأخشى أنها ستكرس أكثر الوضع الشاذ القائم، ويا للأسف الشديد.

Mt. Ararat painting by Arthur Gasparyan 2013

عند توقيع اتفاقية كارس سنة 1921 كانت أرمينيا في أضعف حالاتها السياسية والاقتصادية وكانت في حالة بائسة يائسة مغلوبة على أمرها، فلم يؤخذ برأي الشعب الأرمني في ذلك الحين للأسباب المذكورة آنفاً، وكذلك بسبب تولي نظام الإتحاد السوفييتي كقوة مهيمنة في تلك الفترة بالتفاوض نيابة عن الأرمن مع أتاتورك (في ظروف مشابهة لاتفاقية سايكس بيكو حيث تم تهميش الدول العربية عند رسم حدودها) مفرطةً في حقوق الأرمن، مفضلةً مغانم ومصالح أخرى في مواقع مختلفة من حدود الإتحاد السوفييتي مع تركيا، والتي شملت من ضمن ما شملت أراضي شاسعة ومدناً بأكملها من أرمينيا الغربية التي تعتبر مهد الحضارة الأرمنية. كذلك شملت وبإجحاف بالغ جبل آرارات أو ماسيس (آغري بالتركية) المقدس بقمته المزدوجة. فهذا الجبل وسهوله كانا عبر التاريخ وبقيا يلهمان حتى اليوم جموع الشعب الأرمني بأطفاله وصبيانه وشبابه وكهوله وشعرائه وخطبائه وجميع فئاته. فهو مصدر الأفراح والأتراح والشجون والملاحم والأساطير وأرض بطولات شعب عظيم. هذا الجبل لم ينقطع عن احتضاننا يوماً، وضمنا إلى صدره الحنون لغاية سلبه قبل تسعين عاماً.

لذا نحن الأرمن من فرط عشقنا لهذا الصرح الحي مصدر الحياة ما زلنا نتغنى به، وكأنه ملك لنا لم ينقطع يوماً عنا، وانه لم يُحتل ولم يُغتصب. ومن فرط تقديسنا له لم تشعر قلوبنا ولم تقبل عقولنا أنَّنا فقدناه. فمن كثرة سكرنا من مشاهدة منظره المهيب الحبيب يومياً من ذلك القرب من عاصمتنا يريفان حلمنا بأنَّنا إن لم يكن هذا العام فحتماً العام المقبل سوف نحتفل بمهرجانات نافاسارت الأولمبية التقليدية على ربوعه المعطاء وفي أرض ما زالت طاهرة ولم تدنس، ويا للحيف صدقنا أن السبيل إليه لم ينقطع.

نحن أصحاب هذه الأرض التي أرتوت جذورنا من ينابيعها علينا أن نصحو من غفوتنا ولا نقبل أي اتفاقية أو وثيقة تضع جبلنا الحبيب آرارات خارج نطاق أنفسنا، فننظر إليه بحسرة من خلف الأسلاك الشائكة عبر الحدود على بعد خطوات ونحرم من تقبيل ترابه العزيز. وإننا لن نرتاح حتى نسترجع جبلنا الحبيب إلى حضن وطننا وشعبنا حيث ينتمي وفك أسره وتحريره من نير الاحتلال والاغتصاب، وإنَّنا إلى ذلك الحين – وهذا بيت القصيد – سوف ندعوه جبل «آرارات المحتل» أو جبل «آرارات المغتصب» أو جبل «آرارات الأسير»، ولمَ لا أو أي صفة تحيي فينا روح النضال ورغبة الاسترداد، كلما نظرنا إليه من بعيد بنفس مشاعر نظرة العرب إلى المسجد الأقصى الشريف أو سمعنا بيت شعر ذا شجن عنه، أو شاهدنا صورته على حائط بيت من بيوتنا، وخصوصاً كلما نظرنا بإعتزاز إلى شعارنا ورمزنا الوطني حيث يبرز بشموخ كل صباح.

نحن الأحرار كبقية أحرار العالم لا نقبل مذلة كهذه، ولا العالم المتحضر يقبل ظلماً كهذا، فمن الطبيعي والعدل أن تعود الحقوق التاريخية الأصيلة إلى شعب معزز مكرم لكي يعم السلام، ولئلا يظل جرح القهر الدامي جيلاً بعد جيل في قلب أفراد شعبنا ينزف باستمرار ويمنعهم من الشعور بالعزة والكرامة والكبرياء المصانة على أراضي أجداده وتاريخه المجيد وحضارته الراقية وإرثه الثقافي الطيب وكلها بناها منذ فجر التاريخ وأهمها استرداد جبل «آرارات المحتل».

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 26-9-2009 

وفي جريدة «القبس» بتاريخ 5-10-2009 تحت عنوان «جبل آرارات الأسير».

الحديث  عن جبل آرارات يثير أحاسيس كل أرمني ومشاعره، لأن عشق هذا الجبل وتبجيله وراثي ومتأصِّل من جيل إلى جيل وليس عادة مكتسبة. 

الأرمني  ينام ويستيقظ ومحبَّته لجبل آرارات تسري في عروقه. أية صورة لأي جبل كان، يقع عليها بصره بالصدفة أينما كانت، في جريدة أو مجلة أو روزنامة حائط تذكِّره بجبله الحبيب، سواء أكانت تلك الصورة لجبل كليمنجارو في تنزانيا بأفريقيا أو لجبل فوجي في اليابان، وبشكل تلقائي يضعها في مقارنة مع جمال قمَّة جبله وهو يجد دائماً العذر لترجيح كفّة المواصفات الجمالية لجبله عن جبال الآخرين.

 يخيَّل للأرمني أن جبل الأرمن فيه هيبة ووقار من نوع آخر لا وجود لهما في جبال الآخرين، وثلوج قمَّته تنتشر بشكل انسيابي ومتناسق أكثر من ثلوج بقية الجبال وهو الأكثر ارتفاعاً في القمة وأوسع مساحة في السطح وهو موطن الأساطير والحكايات التي تملأ قلب الأرمني بالدفء والارتواء من بطولاتٍ وملاحمٍ جرت في وديان وأحراش وسهول هذا الجبل في زمن ملوك وأمراء وأبطال عايشوا الجبل منذ آلاف السنين وسطروا كل تلك الملاحم العظيمة. 

هذا الجبل إذاً مصدر اعتزاز للأرمن  وكأنَّهم هم الذين بنوه بأيديهم جيلاً بعد جيل وإن أمهر  المعماريين خطط له، وأبدع الفنانون في رسمه فلوَّنوه بريشتهم البديعة الساطعة، وكأن أكفأ  البنَّائين زيَّنه برص حجر فوق حجر عاماً  بعد عام، وهو بقمَّته المزدوجة المتناسقة ينشر بركة الأبوين لأولادهما منذ عشرات القرون.

لا أعتقد أن في الدنيا بأكملها بين الأرمن المنتشرين في أقاصي المعمورة أفراداً يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين، يعتقدون فعلاً ومقتنعون تماماَ في قرارة أنفسهم أن جبل آرارات أصبح ملكاً لغيرهم منذ مدة غير قصيرة ولا هم بمصدِّقين أنَّ الوضع الحالي يفرض عليهم هذا الواقع رغماً عنهم وأنه يحتاج إلى معجزة حقيقيَّة لتغييره وإعادته إلى وضعه الأصيل.

الأرمني لا يصدِّق أن جبل آرارات الذي حطت عليه سفينة أبينا نوح وجاء ذكره حتى في الكتب المقدسة والعديد من المصادر الموثوقة، قد تغيَّر اسمه وأصبح اليوم تركياً (أغري داغ).  لا يصدِّق أيضاً أن التاريخ أصبح يكذب. والأرمني لا يصدِّق أن كل تلك القصائد التي كُتبت وأجمل الصور التي رُسمت بقلم وريشة أدبائنا وفنانينا، وكل تلك الجهود لإلقاء تلك القصائد بحماسة أمام الجماهير أو التغنِّي بها على المسارح المدرسيَّة أو في أكبر المسارح العالمية التي تربَّى عليها هو منذ كان صغيراً حتى بلغ شبابه وكهولته، لا يصدق أن كل ذلك عبث ليكتشف فجأة أن كل ذلك الوجد والحب، إنما يتعلق بجبل لا يخصّه هو، وليس له به أية علاقة وأية ملكية… يا لسخرية القدر!.

وهناك أكثر من مناسبة خاصة ذكرت فيها جبل آرارات في مقالاتي، لكن المقالتين الأخيرتين اللتين كتبتهما لأسباب خاصة أولاهما بمناسبة زيارتي لأرمينيا عام 2008 والثانية بمناسبة توقيع بروتوكول بدء العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وأرمينيا عام 2009. المناسبة الأولى كانت مواجهتي الأولى لجبلنا العزيز عن كثب وبوضوح ذات صباح ساطع حيث كنت وزوجتي في طريقنا إلى غاراباغ لإفتتاح المدرسة المتوسطة باسم والدي المرحوم نرسيس قيومجيان في قرية أوريكان في منطقة كاشاداغ في غاراباغ المحرَّرة، وكان الطريق طويلاً طبعاً (نحو ست ساعات بسيارة «جيب لاندروفر») يقودها صديق العائلة السيد ديكران. وفعلاً، وبعد مسيرة  نحو الساعة من يريفان باتجاه الجنوب الغربي أصبحت وجهاً لوجه مع جبلنا العزيز، وصدقاً أقول ولا أبالغ بأنَّني فعلاً امتلأت بمشاعر جياشة كأن شيئاً يضغط على صدري بشكل لا يوصف وشعرت وكأنَّني في حضور مقام لا أستطيع الوقوف أمامه بلا خشوع ولا تأثُّر شديد فكأنَّني أقف أمام نبي أو قديس وقور محاط بالنور الوهَّاج يبهر نظري ويهيج وجداني، بل كأنَّني وجدت عزيزاً كنت قد فقدته وتأثَّرت بغيابه منذ مدة وها أنا الآن أجده أمامي حيَّاً يرزق.

 نعم كانت مشاعري من النوع الذي يحتاج إلى قلم أبلغ من قلمي ولسان أفصح من لساني ليستطيع التعبير الصحيح عنه. وكان مزيجاً من السعادة والحزن، كأنني شاهدت أخيراً حبيبتي المفقودة التي أحببتها منذ زمن طويل وقابلتها فجأة حيَّة ترزق وفي أبهى قامة وروعة وجمال. عزيزة على قلبي وروحي وهي جزء من فؤادي وبعد فراق طويل أشتمُّ رائحتها فينشرح صدري من منظرها. ويا لوعتي ! لا أستطيع الاقتراب منها لأنَّها في أحضان غيري، يا للقهر وسخرية الزمن! .

أما مقالتي الثانية المخصَّصة لجبلنا الحبيب بعنوان «جبل آرارات المغتصب» فهي أيضا ناتجة من انفعالاتنا اليوميَّة نحن الأرمن في ما يخص الوضع الشاذ لجبلنا. فمثلاً خلال إحدى جلسات العشاء في نادي الأرمن في حي الفيلات في حلب أخذنا نتحدث أنا وثلاثة أصدقاء لي عن هموم وتطلعات شعبنا وعن ماضيه وخاصة حاضره، وكان الحديث شيِّقاً وبنَّاءً، فطرحت لجلسائي سؤالاً كان يراودني منذ فترة وكنت اختلف بيني وبين نفسي في إمكانية قابليته للتطبيق أم لا. والسؤال الذي كان يشغلني هو: لماذا لا نُطلق أو نستخدم كلمة «المُحتل» أو «المُغتصب» كلما ورد ذكر جبل آرارات أثناء كتاباتنا في وسائل الإعلام أو في ما يُلقى من خطابات بل وأسفل الصور التي تزيِّن غرف بيوتنا، كما تفعل جميع الشعوب التي لديها جزء محتل من أراضيها كالجولان السورية المحتلة أو قبرص المنقسمة أو القدس المغتصبة أو المسجد الأقصى ولواء اسكندرون السليبين إلخ، والكثير من الحالات المشابهة من سلب ووضع اليد. كان هذا الموضوع كما قلت يشغل بالي ولم أفصح به لأحد لكنَّني في تلك الجلسة، حيث كان الجالسون من الذين استأنس برأيهم – وهم الدكتور طوروس طورانيان الكاتب المعروف وزميلي في الدراسة في مدرسة هايكازيان الابتدائية في حلب الدكتور سركيس كيهييان المقيم حالياً في المانيا، وجدت الوقت مناسباً لأطرح هذا السؤال وأستطلع رأيهم في ما أرغب تبنِّيه في ما بعد لو نال موافقة المستطلعين.

 فعلاً هذا ما حدث وطرحت السؤال على النحو الآتي: «أنا أعتقد بأنَّنا نحن الأرمن نخطئ عند تناولنا كل ما يتعلَّق بجبل آرارات من غير ذكر كلمة «المُغتصَب» بعد ذكر اسمه، لأن الجبل في وضعه الحالي لا يقع ضمن حدود جمهورية أرمينيا، بل يقع ضمن الأراضي التركيَّة».

بعد المقدِّمات التي قدَّمتها لأصحابي ختمت كلامي متسائلاً: هل توافقون على أن ما طرحته صحيح وأنَّه يجب أن نتبنَّى عبارة «جبل آرارات المغتصب» من الآن فصاعداً بدلاً من «جبل آرارات» فقط، وذلك لإحياء رغبة استرداده في المستقبل بدلاً من تجاهل اغتصابه والتظاهر وكأنه غير حاصل أصلاً ؟

أضفت أيضاً بأنَّني أرغب شخصياً في أن أكون البادىء في ذلك في وسائل الإعلام العربي في أقرب فرصة، وكانت النتيجة السارة حينما وافق أصدقائي على الفكرة، بل رأوها مبتكرة وجديرة بأن يبدأ بها فوراً كل منا من موقعه، وفعلاً هذا ما حصل وكتبت مقالة بعنوان «جبل آرارات االمغتصب» وفي مقدِّمتها بيت من قصيدة «زهرة المدائن القدس» التي غنَّتها السيدة فيروز في تلك الأغنية الوطنية – الإنسانية العظيمة التي ورد في أحد مقاطعها «عيوننا إليك ترحل كل يوم» وتقصد القدس المغتصب. ومن ثم صدرت مقالة للدكتور طورانيان في جريدة «كانتساتسار» الأرمنيَّة الحلبيَّة وفي جريدة «آرارات» البيروتيَّة وجريدة «نور كيانك» الأرمنيَّة التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكيَّة أيَّد فيها ما ذهبت إليه في مقالتي التي تُرجمت بدورها إلى الأرمنيَّة وصدرت في تلك الجريدة قبل مدة وفي جريدتَي «آزتاك» و«آرارات» اللبنانيَّتين.