يعتصر قلبي ألماً وتنهال دموعي دماً على ما أشاهده وأسمعه هذه الأيام في وسائل الإعلام على ما يجرى في بلدي الحبيب سوريا  ولاسيما مدينتي ومسقط رأسي حلب الشهباء  . حلب أمي الحنون المعطاء، التي حمت أهلي وأوتهم في محنتهم منذ قرن ،و التي أمنت لي ولأخوتي وأصدقائي من جميع الأديان والمذاهب والأعراق أجمل ذكريات الطفولة والشباب . حلب الثقافة والأدب والفن الاصيل. والمباني الحجرية المعمارية الفاخرة . حلب بيت الأمير أبي فراس الحمداني وعبد الرحمن الكواكبي و حلب الأناشيد الدينية المؤثرة ،وصباح فخري والقدود والمواويل والموشحات . حلب التي أعطت أسمها للطرب والفستق والكباب اللذيذ الفريد في العالم .حلب الباقية من أعماق التاريخ الإنساني والإسلامي المتسامح ، وعبق التراث العتيق.  مدينة الشهامة . حلب الشهباء. 

Photo credit Madain Project

 كما أنني أتالم أكثربمشاهدة قوافل المهاجرين إخواني السوريين ومخيماتهم في الدول المجاورة ، وأتألم لحالهم ألماً شديداً كما أتألم  لسماعي عن الاعداد المتزايدة من إخواني السوريين الأرمن الذين ربما ينوون الهجرة من سوريا والتوجه إلى بلدان مختلفة ،وخصوصاُ في إتجاه أرمينيا وطن الاجداد.  لأسباب أمنية (ما عدا هؤلاء المسافرين الذين يحتفظون بمفاتيح بيوتهم ومفاتيح أعمالهم في جيوبهم ) . 

أنني أعترض بقوة .وكمبدأ وطني على فكرة الهجرة من أساسها لأي مواطن، فهي امرمكروه بالنسبة إلينا ، وأريد أن أذكر أهلي الذين قد يفكرون في التحضير للهجرة أن للارمن واجب انسانياً و أخلاقياً  تجاه مدينة حلب وأهلها التي احتضنتهم عند تعرضهم للمذابح مطلع القرن الماضي . حلب التي احبتهم واحبوها ، عليهم أن يؤكدوا لشعوب العالم قاطبة أن شيمتهم الإخلاص والوفاء وإنهم إخوة وأصدقاء في السراء كما في الضراء ، مع باقي مكونات الوطن وطوائفه الذين احبهم واحترمهم  . وإنهم جزء أساسي من النسيج الإجتماعي لايمكنهم تفتيته والفكاك منه ابداً. ولابد لهم من التشبث بالأرض .

إن الطائفة الارمنية  تتكبد أضرارلاحصر لها بهجرتها من سوريا عموماً  ومن حلب خصوصاً  (وقد لاتطول إقامتها أكثر من 6 اشهر خارج الوطن فتندم على مغادرتها حارتها ومساكنها مهما كانت متواضعة أو فاخرة ). فأنها سوف تخسر البيئة الاجتماعية التي تحتضن جميع أفراد الجالية بالسعادة والوئام ،  وتفتقد المعيشة اليومية التي تعودتها وتخسر لغتها الأم وأرثها الثقافي النفيس التي تتميز به حلب دون غيرها من الجاليات في العالم . أما الهيئات فستخسر منشآت المؤسسات الدينية وعقاراتها والوقف الكنسي والمنتديات والنوادي والملاعب الثقافية والرياضية التي  بناها الاجداد والآباء من عقود . حجر فوق حجر . سنة بعد سنة . ليرة فوق ليرة . وبكثير من الجهود والتضحيات المضنية وفي ظروف  صعبة وشاقة جيل بعد جيل الى ان وصلت على حالتها الحالية الثرية المشّّرفة ، والغبي  وحده من يتخلى عنها.ويكون بذلك أعطى فرصة للمتربصين بالارمن ان يفرحوا  وخاصة الضامرين الشر لهم .  

 إن مؤسسات حلب التعليمية والثقافية مازالت حاضنة تفريخ العناصر المخلصة النشطة ، وهي التي تمدهم  بالذين يحيون ويبدعون في قيادة بقية الجاليات حول العالم . وحلب هي النبع المعطاء الذي لا يوفرماعنده للوطن الارمني من موقعه ، كما بقية الجاليات ، وبتعطلها وإندثارها يتعطل  الكثير من مقومات البقاء والحفاظ على الهوية الارمنية في المنطقة.

 الجالية الارمنية  السورية جذورها ممتدة في أعماق الأرض السورية والحلبية منها ، هي مكسب وقوة استراتيجية سارية لارمينيا من حيث قوة أرمن حلب وجهوزهم  للتصدي لأعدائهم التاريخيين  وهذه تعتبر حاله تحسب لها ألف حساب. 

   ارمن حلب هم شعبة من الرئة التي تتنفس بها ارمينيا وبغيابهم سوف يضيق نفس دولة ارمينا حتماً . كما انهم إحدى دعائم خيمة الوطن التي كانت ومازال يحتمي تحت سقفها كل الارمن حول العالم ، وبكسر دعامة حلب سوف تتزعزع الخيمة وتفقد توازنها أو تتقلص فاعليتها لامحالة . ضعف أرمن حلب بأي نسبة كانت هي بلا شك وبشكل طردي ضعف للارمن المقيمين بالخليج والشرق الأوسط  مباشرة .  إن مكانة الجالية الارمنية في حلب تشبه وضع الحجر المبسط الذي يستخدم كمداس للإنتقال من طرف الساقية الى الضفة الأخرى ومن دونها يصعب التنقل بين الضفتين اذاً هي ذات دورعامل لوجستي بلا منازع .  وذات أهمية  جيوبوليتكية عظيمة ، بغياب الارمن سوف تخسر بلدنا سوريا الكثير من مقومات الاقتصاد والصناعة الأساسية والخدمية هذا مالا نرضى عنه ابداً وسيخسر المهاجر في المقابل جميع اصدقاء الصبا والشباب مجتمعين. ويبدأ حياته من جديد تحت سماء غريبة غير ودودة. و  ليس على الارمن غير الأستعداد للشدائد وكذلك أخذ الحيطة والحذروالأستعداد  لمواجهة أي اعتداء علي أنفسهم أوأملاكهم أو أعراضهم من بعض المخربين اللصوص الذي من الطبيعي أن يكثروا  في مثل هذه الايام وفي هذه الظروف .

على إخواني السوريين بما فيهم الارمن أن يدركوا أن الازمات السياسية والثورات الشعبية وحتى الحروب تحدث في حياة الشعوب والامم وهناك أمثلة كثيرة ، و ليس من الحكمة و  التدبير إطلاقاً التخلي عن الأرض والمكتسبات التي تم تكوينها بمجهود هائل وشاق جداً  وانه لابد من الصبر والتحمل والتحلي بنفسية المقاوم ،مهما قسا الزمن ، والايمان الأكيد بان المستقبل  حتماً سيكون أفضل من سابقه  وان النهضة المشرقة لوطننا العزيز سوريا ستعوضنا جميعاً على هذه المحنة بالتأكيد. 

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 19/08/2012

وجريدة «القبس» بتاريخ 19/10/2012

وجريدة «الحياة» بتاريخ 22/09/2013

مقالة “حبيبتي حلب” كانت الأولى التي أكتبها بعد صدور كتابي الأول، وهي مرثية وحنين لمدينتي ومسقط رأسي ومنبع ذكريات الطفولة والشباب التي نفتقدها كثيراً ونتألم حين نراها تتدمَّر أمام أعيننا من قِبل المتحاربين في ريفها وداخلها.

سمعت من الكثيرين سواءً الذين قرأوا النسخة الأصلية العربية أو الترجمة الأرمنية لهذه المقالة بأنها كانت مؤثرِّة جداً، وأن أحد القرَّاء بكى عند قراءتها، بل زادت إحداهن في كندا بأنها تحتفظ بالمقالة لديها وتقرأها مراراً عند رغبتها بالبكاء على مدينتها كلما شاهدت المناظر المرعبة والكارثية التي نراها في القنوات الفضائية عن حلب.

واليوم تنتابني مشاعر وأحاسيس داخلية أكبر بكثير من التي كنت أكابدها أثناء كتابة المقالة قبل أكثر من عام، وتفاقم حجم استغرابي عن سبب تدمير مدينتي حلب بهذا الشكل المروع، وزادت حرقة قلبي وفؤادي على ما تتعرض له مدينتنا من قتل وتدمير وتهجير وبؤس، علاوة على قلِّة المواد التموينية والطبية. وقد استشرى العوز والجوع لدى كل قطاعات المجتمع الحلبي وجميع أطيافه من دون استثناء.

 حلب… أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، مرَّت عليها قوافل الغزاة من شرقها إلى غربها، وعايشت قساوة الظروف من قحط وصعوبات على مر القرون، من تيمورلنك إلى جمال السفَّاح، حلب التي تعرَّضت مثل كل المدن العريقة لمتغيرات الزمن لم تشاهد مثل ما تتعرض له اليوم، ويبدو أن القادم أعظم، وحتى جحافل المغول والتتار في فترات الجهل والوحشية لم تؤثر عليها مثلما يحدث الآن.

بعد تشرد إخواني الحلبيين وبقية الاخوة السوريين حول بقاع الأرض سواءً بالنزوح أو التهجير أو حتى هؤلاء ميسوري الحال الذين انتقلوا إلى الدول المجاورة، فإن الشعوب المستضيفة تعمل على التقليل من آلامهم ومحاولات إذلالهم بشكل يومي، وسمعت من بعضهم بأنهم ينوون العودة إليها عند تأمين سلامة الطرقات مباشرة فقط لتقبيل ترابها الأحمر اللون مرات ومرات، لأنهم الآن، وأكثر من أي وقت مضى أدركوا قيمة مدينتهم العزيزة، هذه الأم الحنون التي كانت تمنحهم من خيراتها وبركاتها، وأعطتهم العزة والكرامة وعرفوا قيمتها بعد خرابها…

وأنا أكتب هذا التعليق يعتصر قلبي وكياني من أوضاع حلب، وأتمنى من كل جوارحي مخلصاً أن تتوقف العمليات العسكرية وتتصالح الأطراف المتحاربة اعتباراً من الغد وينخرطوا في عملية بناء وإصلاح بلدنا سوريا ومدينتنا الحبيبة حلب، وملؤ الروح صوت ينادي بلوعة واشتياق:

أما آن لهذا الحرب أن تنتهي، ولهذا النزيف الدموي أن يتوقف وتندمل الجراح…