تابعت بشغف وإعجاب كبير فصول المسرحية الغنائية «زنوبيا (ملكة تدمر)» التي قدمها مهرجان بيبلوس العالمي على مسرح مدينة جبيل الأثري، ولا أخفي أنني كنت منبهراً بمواضيع الفصول الجديدة والتقنيات التي استخدمت عند تغيير الفصول والديكور والاضاءة، وطبعاً السيناريو والحوار والموسيقى والرقصات والمؤثرات.

لست مؤهلاً لمدح أو انتقاد هذه المسرحية من الناحية المهنية أو المسرحيات التي سبقتها مثل «ملوك الطوائف» و«آخر أيام سقراط» و«جبران والنبي» و«المتنبي» التي حضرت بعضها أو حصلت على التسجيلات فاستمعت إليها بمتعة كبيرة. وكمستمع متذوِّق للأعمال السمعية والبصرية أرى أن على الجميع الوقوف باحترام وإجلال أمام الأب الروحي لتلك الأعمال أو ما سبقها من روائع أسطورة العصر الأستاذ منصور الرحباني صانع الأساطير الفنية الخالدة. كما انني أعلم أن الجميع يبتهجون بسماع اسم الرحابنة مثلي. ولمَ لا وهم صانعو القوالب الفريدة للكنوز الفنية النفيسة التي لم يتمكن أحد من صنع مثلها إلى الآن، تلك التي تجسدت على شكل أشخاص أو (سكيتشات) أو ألحان أو كغيرها من الأعمال الموسيقية أو النصوص المعبِّرة أو إخراج مسرحيات عظيمة مثل موضوع المقالة.

ومن حسن حظ الوطن العربي أن الاخوة الرحابنة منصور وإلياس والجوهرة السيدة فيروز ما زالوا يبدعون حتى الآن – رغم رحيل كبيرهم عاصي – ونشكر الله أن روح الإبداع لم تندثر وما زالوا يخلقون البدائع ويقدمون الروائع التي تشبه كل واحدة منها حبة من حبات عقد اللؤلؤ الذي يزين جِيْد لبنان والوطن العربي، كما انه يزين جيد التراث الموسيقي العالمي. نعم أعمالهم تشبه الأطواق والتيجان المرصَّعة بأثمن الأحجار وأكرمها ومصنوعة من أنفس المعادن وأنقاها رغم الظروف السياسية والأمنية التعيسة التي يعيشها لبنان حالياً.

حسناً فعلت حكومة دبي بإنتاج هذه المسرحية المكلفة مالياً كما يبدو وقايضته بخلق هذا العمل الرائع الخالد بالمبالغ التي تكلفتها والتي مهما بلغ حجمها تبقى صفقة رابحة لمصلحة دبي. ويا ليت كل القادرين يحذون حذو حكومة دبي ويستخرجون عسل السدر المصفَّى الأصلي من خلايا النحل قبل أن تجف أو تغيب ملكات النحل كمنصور الرحباني والسيدة فيروز أطال الله عمريهما وأعمار المبدعين من آل الرحابنة وغيرهم وهم قلائل.

في مسرحية «زنوبيا» التي حضرتها ثاني أيام عرضها في لبنان على مسرح آثار مدينة بيبلوس والتي بقايا آثارها الطبيعية كانت تكمل بتناسق طبيعي عجيب ديكور المسرحية ذاتها التي تدور أحداثها أيضاً في مدائن تدمر وروما والاسكندرية التي تتشابه وهي تعاصر مدينة بيبلوس من ناحية فن المعمار واسلوب الحياة فيها، ومع الإنارة الباهرة أصبح المسرح وكأنه أرض الواقع الأصلية المنبسطة على مسافة ربع كيلومتر مربع تقريباً أمام مدرج المشاهدين. يا له من منظر بديع كان عليه المسرح طوال فترة العرض.

أما ما أود إيصاله بعد الاحترام الكبير للسيد منصور الرحابني كونه مؤلِّف المسرحية والسيد مروان الرحباني كونه المخرج هو عبارة عن رسالة استياء صادقة ونابعة من قلب محب، فلنا وقفة اعتراض على الفقرات التي شوهد فيها المدعو مارديروس الأرمني والذي أريد له أن يظهر بدور الشخصية التافهة، بالاضافة إلى لكنته ولغته العربيَّة المكسرة وكان كمن لا يهمه إلاَّ بطنه ويحلم بتوفر السجق والبسطرما على مائدته إلخ… الذي يتمثل فيها كإنسان سخيف لا يلاقي الاحترام، وهذا مخالف للواقع طبعاً، أما المشهد الثاني فهو الذي ظهرت فيه الشخصية الأرمنية ذاتها ولكن بعد مرور حقبات من الزمن في سياق أحداث المسرحية هي أيضاً شخصية غير مشرِّفة لأي إنسان أرمني غيور، حيث ان العمل الذي قال بأنه يزاوله الآن هو عمل لم نسمع أن أرمنياً امتهنه سابقاً، كما انه ليس من المصالح التي اشتهر بها الأرمن واتقنوها، وليس من خصالهم بتاتاً، أما إذا سلمنا بأن لكل قاعدة شواذاً ورجلنا هذا شاذ عن القاعدة مثلاً، فلم يكن موفقاً ولا منصفاً اختيار ذلك الدور له ما دام احتمال المساس بإنتمائه وارداً.

جاء في نهاية المسرحية بأن مملكة زنوبيا امتدت من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى حدود أرمينيا في الشمال. إذاً كان معروفاً للمؤلف وكذلك لكل من يعرف تاريخ المنطقة أن أرمينيا كمملكة كانت موجودة مع حضارتها في المنطقة، وكان من الممكن ذكر أحد الأحداث التي حدثت مع الجار في الشمال مثل تحالفات أو صدامات أو غيرها من الأحداث الطبيعية، علماً أن ظروفاً مشابهة كثيرة جرت للملكة زنوبيا مع دول وقبائل أخرى مجاورة لها في ذلك الزمان، ولم يذكر اسم أرمينيا مطلقاً.

أنا أتفهم ضرورة إدخال مشاهد هزلية في سياق المسرحيات بوجه عام لاضفاء جو من المرح ومتعة الجمهور، وصادفت أكثر من مرة في المسرحيات السابقة للرحابنة حشر الشخصية الأرمنية عمداً متعمداً كإنسان ذي لغة عربيَّة ركيكة يخلط بين المذكر والمؤنث ويضع نفسه في مواقف محرجة لذلك السبب، وأيضاً ذلك النموذج الذي غالباً ما يبدي ولعه الشديد بأكلات السجق والبسطرما والكباب إلخ، شيء لا أنكر صحته بنسبة معينة وخاصة في الماضي ولو انها ليست شهوة معيبة لأحد ولدى كثير من الشعوب تراث مشابه من المأكولات لا داعي لتسميتها. لكن لا أقبل كما غيري لا يقبل تكراره مرة تلو الأخرى، وأخشى ترسيخ نموذج هذه الشخصية لدى الجمهور لوجودها في أعمال عظيمة مثل التي يشاهدها الملايين.

الأرمن شعب له حضارة راقية مثل الشعب اللبناني وله صفات وطبائع الشعوب النقية، وكان له أن يصبح من أعظم الدول لو لم يتعرض للدمار والاحتلالات المتتالية من جحافل الغزاة بسبب موقعه الجغرافي وطمع الامبراطوريات فيه، كما أن له حاضراً مشرِّفاً يشهد به الجميع حيثما حل وارتحل، وأتوقع من الاخوة الرحابنة أخذ هذه الحقائق في الاعتبار أكثر من غيرها.

وحيث إن مسرحية زنوبيا من الأرجح أن تعرض مرات عديدة في المستقبل، لذا نهيب بالقائمين على المسرحية مشكورين بتغيير حوار الجزء الخاص بالشخصية الأرمنيَّة أو حذفها تماماً.

أعيد وأكرر تقديري الكبير للرحابنة العظماء متمنياً لهم دوام التوفيق والنجاح، وأتمنى بكل صدق أن يظلوا ذخراً لنا كمشاهدين وللمجتمع الحضاري المثقف أجمع.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 3-9-2007.