كنت مسافراً ولم أستطع مشاهدة برنامج «كلام الناس» على شاشة الـ «LBC» الذي يقدِّمه الإعلامي مارسيل غانم في الحلقة المخصَّصة لذكرى شهداء الأرمن الذين قتلوا على يد الأتراك قبل حوالي 90 عاماً التي تصادف يوم 24 نيسان – أبريل من كل عام، ولكن من حسن الحظ استطعت أن أحصل على نسخة من البرنامج بعد بضعة أيام وشاهدتها واستمعت إليها أكثر من مرة للاستيعاب الكافي قبل التعليق عليها، خصوصاً في المحاور التي ركَّزت عليها الحلقة أكثر من غيرها وهي: أولاً موضوع عدم تمكن غالبية الأرمن من اللغة العربيَّة بعد مرور عقود من الزمن على استيطانهم في بلاد المهجر العربيَّة، ثانياً عدم انفتاح الأرمن على المجتمعات التي عاشوا فيها ولم يختلطوا بها بشكل كافٍ، وأعطوا الانطباع وكأنهم شكلوا غيتوات في محيط المناطق التي سكنوا فيها. وبرغم أن الأستاذ نيشان دير هاروتيونيان الإعلامي الكبير الآخر الذي كان ضيف الحلقة الرئيسي ونجمها قد أعطى تفسيرات اتفق معه عليها، ولكن لم يسعفه الوقت ربما للاسترسال والشرح الوافي للموضوع، وبما أن هذه المواضيع تشكل مادة يتناولها المحيطون بالأرمن سواء أكانوا أصدقاء أم معارف، أم في وسائل الإعلام من وقت إلى آخر (خصوصاً في لبنان) مثله مثل موضوع مهم آخر في السياق عينه، وهو ماهية الإنتماء الحسي والوجداني للأرمن المقيمين في لبنان أو مصر أو سوريا، على سبيل المثال، وهل هم أرمن أرمنيون مقيمون في هذه البلدان أم هم لبنانيون أو مصريون أو سوريون أصيلون حسب البلدان التي يعيشون فيها، حتى أن غالبيتهم ولدوا وترعرعوا فيها أصلاً. وإنَّني قبل إبداء الرأي شبه مرغم في المواضيع الثلاثة أن أشكر الأستاذ مارسيل غانم ومحطة «LBC» على تقديم هذا البرنامج، الذي تضمن تقارير ممتازة وكثيراً من المقاطع الرائعة، كما أشكره على استشهاده أثناء النقاش بجزء من المقالة التي كنت قد كتبتها بعنوان «قضايا الأتراك وقضايا الأرمن» في جريدة «النهار» قبل أيام من الحلقة.

إن عدم تمكن الأرمن من اللغة العربية يعود إلى أسباب عدة منها: أولاً، أن جميع الأرمن المهاجرين كانوا مقتنعين بأن بقاءهم في المهجر مؤقت، وأنهم سوف يعودون إلى ديارهم عاجلاً أو آجلاً، لذا لا داعي للانشغال بتعلم لغة لن تنفعهم لاحقاً، بل الأنفع لهم التمرس بحرفة أو مهنة يستطيعون بواسطتها تأمين لقمة العيش وتخفيف معاناة شظف الحياة وانتشالهم من البؤس الذي هم فيه. ثانياً، كانوا تحت وطأة الشعور بالخوف المتأصل في باطن وجدانهم من احتمال محو شخصيتهم القومية وطمسها على يد مجتمعات ما كانوا يعرفون عنها شيئاً قبل الوصول القسري إلى ديارهم ومجاورتهم. وإن التغلب على هذا الهاجس تطلب جيلين أو ثلاثة وجاءت الحرب العالمية الثانية لتعيد هواجس الأرمن في المهجر إلى نقطة البداية. وأعيد توزيع جاليات الشتات من جديد وإيجاد حالة جديدة من التبعثر وعدم الاستقرار، مما عمَّق فجوة المخاوف بشكل أو بآخر. ثالثاً ظاهرة عشق الأرمن الفطري للغتهم الجميلة وأبجديتهم لما في هذه اللغة من موروثات تاريخية وثقافية مقدسة وتجليات أدبية وتراث غني من قصائد وأغان وأناشيد من الأدب الرفيع القديم منه والحديث ونتاج فكري عطر عزيز على قلوبهم.

أما موضوع انغلاق الأرمن على بعضهم وعدم انفتاحهم على المجتمعات المحيطة بهم، والذي يفترض أن يسمى الخصوصية وليس الانغلاق، فمرده مشابه لمعطيات الموضوع الأول. يضاف إليها أن الأرمن معروفون بحرصهم على التزاوج والتصاهر بينهم وامتناعهم (قدر المستطاع) عن تزويج بناتهم وأبنائهم من غير الأرمن، وهذا مرجعه الاحساس والاستشعار باحتمال الذوبان في مجتمعات طاغية كبيرة وضياع حقوقهم القومية المغتصبة والمرتهنة واندثار الحضارة والتاريخ نهائياً، وهذا ما لا يرضاه أي أرمني لقوميته أبداًُ، كما لا يرتضي مثله أي عربي أيضاً سواء أكان لبنانياً أم عراقياً أم مصرياً أم سورياً في بلاد المهجر مثل البرازيل أو فنزويلا أو اوستراليا، حيث تستمر المحاولة حثيثة للمحافظة على الهوية العربية في تلك الجاليات وهذه فطرة خلقية عند جميع الأثنيات للمحافظة على الأصل لا يلام عليها أحد. وما عدا ذلك فإن الأرمن مندمجون ميدانياً أشد اندماج مع اخوانهم المواطنين متشبعين بقضاياهم وبذلك أصبحوا خيطاً أساسياً في النسيج الإجتماعي العربي واللبناني أو غيره، لهم مساهمتهم الإيجابية في تأسيس المؤسسات التربوية والجامعات والجمعيات الثقافية والرياضية والفنون الراقية.

أما المحور الثالث والأهم في البرنامج الذي نوقش بتركيز أكثر من غيره ألا وهو موضوع انتماء الأرمن الجيوبوليتكي، فهل هو أرمني يعيش في لبنان أم لبناني من أصول أرمنية ؟ ولمن ولاؤه الأول ؟ وأصر الأستاذ مارسيل على انتزاع الجواب عن هذا السؤال من ضيوفه الأرمن كل على حدة، ورغم اعتراضي على طرح الموضوع في الأصل، لكن انطلاقاً من خضوعي غير المشروط لوطني الذي منحني جنسيته واشركني في الحقوق والواجبات، وحفاظاً على سمعتي كمواطن صالح لا أرضى بأقل منها، جوابي أنَّني لبناني ثم لبناني ثم لبناني، أو أنَّني أردني ثم أردني، أو أنَّني سوري ثم سوري إلى آخره. شيمة الأرمني الوفاء والاخلاص لمن مدّ يد العون له في محنته كأي إنسان شريف، وهو لن يتردَّد في التضحية بحياته وبالغالي والنفيس في سبيل الوطن الذي احتضنه ويعيش فيه، وأنه لا يقل مثقال ذرة في الوفاء والانتماء عن المواطنين الآخرين، وأن واجبي القومي يسير جنباً إلى جنب وبتناسق تام مع واجبي الوطني يدعم أحدهما الآخر ويثريه ولا يتعارض إطلاقاً. لا أتقاعس عن خدمة أي منهم وأعمل بجد على رفعتهم، كيفما استطعت، وهذا ما عبَّر عنه ضيوف البرنامج كل على طريقته.

وعلى كل حال إن الظروف اليوم غير التي كانت سابقاً، فالأرمن الذين يعيشون الآن في المجتمعات العربية ينامون قريري العين مطمئنين إلى أنفسهم وأملاكهم وأعراضهم، ولم يعد لديهم ذلك الرعب الذي أعقب المجازر والتهجير الذي تعرضوا له في الماضي، والكل يعلم أن قساوة الظروف التي مر بها الأرمن ما كانت تؤثر في أي فئة أخرى أقل مما أثرت في الأرمن.

ثلاثة مواضيع عفا عليها الزمن ولا أظنها تطرح مستقبلاً آملاً أن يفسح وقتها ومكانها لقضايا أرمنية معاصرة وما أكثرها، وحبذا لو يطرحها الأستاذ مارسيل ومحطة «LBC» وينفذانها.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 8-5-2008.