«من أعماق القلب كلمة إلى الله» هو عنوان جميع مقاطع كتاب «المراثي» الذي وصفه وأبدعه كريكور ناريكاتسي قبل ألف عام ويُحتفل به كتحفة أدبيَّة في جميع المحافل الثقافيَّة والدينيَّة العالميَّة مثل اليونسكو وغيرها بمناسبة صدوره الألفي الأول هذا العام.

وتُرجم «كتاب المراثي» إلى كثير من اللغات الحيَّة وترجمه إلى العربيَّة الأستاذ المعروف نزار خليلي، والكتاب يتألف من 700 صفحة في 95 حواراً تبدأ جميعها بجملة «من أعماق القلب كلمة إلى الله» أو «كلمة مع الله»، حيث يمكن ترجمتها بالشكلين دون فرق جوهري يذكر في المضمون، ويسمَّى ناريكاتسي نسبة إلى قرية ناريك في أرمينيا الغربية قرب بحيرة فان. وهو أحد أشهر أدباء الأرمن الصوفيين الذي اشتهر بصفة خاصة بكتابه العظيم موضوع المقالة الذي شاع في ما بعد باسم «ناريك» اختصاراً.

لا يضاهي «كتاب المراثي» أي «الناريك» أي عمل أدبي معاصر له وهو يفوق في القيمة الأدبية كتاب «الكوميديا الالهية» لدانتيه عملاق الأدب الإيطالي الذي جاء بعد ناريك بأكثر من ثلاثمائة عام.

يتميز ناريك عن غيره في الكتب بأسلوبه الفريد بمخاطبة خالقه الله عز وجل واصفاً إياه بأوصاف تبجيليَّة وتكريميَّة قلَّما وجدت في أي نص آخر. كما إنه يتميز بأسلوب فكري عبقري فريد ورائع وهو نابغة فكرية عظيمة في مجال الأدب اللاهوتي ليس عند الأرمن فحسب بل في الأدب العالمي لما يتميز به من تفرد بالتحليلات الروحانية العميقة وتوصيفات صوريَّة شديدة الوضوح والتأثير وتعبيرات صادقة وبليغة لخلجات ومشاعر الروح الإنساني يصل إلى مرتبة الإعجاز. إن القارئ سوف ينبهر في سعة خيال هذا الإنسان وقدراته الاستثنائيَّة لاختيار هذا الاسلوب ونجاحه باقتدار في محاورة ربِّه شاكراً شاكياً مطالباً ومعظِّماً في الوقت نفسه، وباسطاً هموم وشجون المخلوق بخالقه الواحد الأحد. وكأنه حوار بين الخالق والمخلوق، وبين الكامل والناقص، وبين الذي لا يخطئ والذي دائماً يخطئ، بين الباقي والفاني. إنه حوار يحول التواصل بين الإنسان وربِّه إلى علاقة تخاطب ودي مع خشوع جم يناجي ربَّه عند كل ما تعرَّض إلى الزلات والخطيئة ويطلب وده ومغفرته عالماً بقدرات ربِّه العظيمة قاصداً رحمته.

في الأبيات التالية المقتطفة من الحوار التاسع والأربعين نحاول التعرُّف إلى بعض مما يتجلَّى في أدبية ناريك:

«حقاً ليس لأي من مخلوقاتك وبلغته الماديَّة وصف جزء بسيط من رحمتك 

والذي أريتني إياه يا أيها المبدع،

لأن قوتك هي بالتأكيد أعظم بكثير

يعيد البالي لمثل بريقه الأول 

يخلق القوة من العدم لا ضعف فيك مطلقاًً، بل أنت طاقة كل شيء.

ومجرد كلمة منك كافية لتوصيل الأعمال لكمالها. 

ويسمو بنور رحمتك أكثر من الخلق نفسه.

لأنك باحداهم تسمى بالخالق فقط، أما بالثانية فأنت المحيي والغافر.

ليس فقط المجدِّد بل أيضاً المصلح.

ليس فقط الباري بل أيضاً المحسن. 

ليس فقط الدليل بل أيضاً النور.

ليس فقط المداوي بل أيضاً المواسي.

ليس فقط الشافي بل أيضاً الطبيب.

ليس فقط الخالق بل أيضاً الرفيق.

ليس فقط عاطي الهبات للجميع بل أيضاً الكريم.

ليس فقط الصبور بل أيضاً المتسامح.

ليس فقط المتفهِّم لغرائزنا بل أيضاً الساتر. 

ليس فقط العطوف بل أيضاً الملاذ.

ليس فقط المحب الجبَّار بل أيضاً الله.

وإنك بطيبك اللا متناهي مبارك بكافة الأحوال.

وهكذا إلى نهاية الفصل الذي يختم به ناريكاتسي تبجيله وتفصيله للصفات الالهية الحسنى بخشوع، واعظاًً قرَّاءه من الشعب الأرمني إلى المعرفة اليقينة لفضائل ربهم سبحانه وتعالى في وقت كانت شعوب المنطقة غارقة في الضلال والجهل، منغمسة في الملذات، ضعيفة الإيمان.

ليتني استطعت تقديم بعض الفصول الأخرى ذات الصبغة الأدبيَّة والسبكة الشعريَّة المختلفة الذي يزخر فيها الكتاب ولكن لا أظن بأن الصفحات الأدبيَّة في الجريدة تسمح بذلك.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 14-11-2003 .

وفي جريدة «النهار» بتاريخ 16-12-2003 تحت عنوان «ألف عام على «كتاب المراثي».

هذه المقالة كتبتها بمناسبة الذكرى الألفية الأولى لتأليف «كتاب المراثي» للنابغة اللاهوتي كريكور ناريكاتسي الذي عاش وتوفي في منطقة بحيرة «وان» في أرمينيا الغربية التي يحتلها الآن الأتراك.

ما يسعدني أن الذكرى الألفية للاحتفالات بالكتاب والكاتب وجدت الصدى والاهتمام اللازم في المحافل الدولية مثل اليونسكو، وفي المحافل الأدبية والفكرية وخاصة اللاهوتية في أرجاء العالم كافة، سواء بين الأرمن وغيرهم من الأمم الحضارية  وهذا ما يسعدني كثيراً. إن السبب الرئيسي الذي دعاني إلى كتابة هذه المقالة هو تسجيل موقفي من الرجل وأعماله قبل فوات الأوان وقبل انتهاء الاحتفالات بذلك في العام 2003. أما الدافع الآخر والأهم  فكان عشقي لأعمال هذا الأديب الكبير عموماً وإعجابي  بقدرته على الغوص في وجدان الإنسان وخلجاته، طالباً له المغفرة والصفح من الرب حينما يغرق في الذنوب والآثام، وأعجبني في هذا المبدع قدرته على الغوص في الجوانب الروحانيَّة وصياغتها في قالب لغوي بليغ، ومنذ تعرَّفت أعماله بعد قراءتي ترجمته من اللغة الأرمنيَّة القديمة (الكرابار) إلى اللغة الأرمنيَّة الحديثة (الأشخارابار)، منذ ذلك الحين عرفت قيمة هذا الكاتب والكتاب وخصَّصت الكثير من وقتي لقراءة جزء من أعماله قبل الكتابة عنه.

إن «كتاب المراثي» عمل أدبي عظيم لا يشرِّف كل أرمني فحسب، بل يحمل بين طياته السعادة لكل مؤمن أياً كان دينه ومذهبه.