« لنأخذ بالحكمة والموعظة ونحترم كلام النابغين». هذه أولى الكلمات التي كُتبت بأبجدية اللغة الأرمنيَّة عند أول اكتمالها قبل 1600 عام كنص، وهذا ما أريد له أن يرسخ في الشخصيَّة الأرمنيَّة بعد ذلك كغاية.

الأبجدية الأرمنية مزخرفة

آباء أجلاء مثل «ميسروب ماشدوتس» و«ساهاك بارتيف» أفنوا حياتهم في سبيل إيجاد أبجديَّة خاصة بأبناء شعبهم يستطيعون بواسطتها كتابة وقراءة وترجمة النصوص الدينيَّة والأدبيَّة التي كانت زاخرة في المجتمع وفي البلاط الأرمني، وبالأخص الإنجيل المقدس الذي كان يُقرأ على المؤمنين باللغة السريانيَّة أو اليونانيَّة، ويترجم إلى الأرمنيَّة حسب قدرات القارئ والمترجم، أما هؤلاء الذين يعرفون السريانيَّة أو اليونانيَّة فكانوا قليلين وكان الأمر محصوراً في نطاق الكهنة ونخبة طبقات المجتمع العليا، أما عامة الشعب فكانت لا تستطيع قراءة الكتب المقدسة أو إدراك معاني النصوص الدينيَّة والصلوات والشعر والأدب، إلا بواسطة الغير وبشكل بسيط في غالب الأحيان خالٍ من الأصالة والفهم المفعم، منقوص التواصل الروحي المباشر مع النص أو منحرف عن أصل المعنى المقصود أحياناً أخرى.

25 سنة هي المدة التي استغرقتها الأبجديَّة الأرمنيَّة لإيجادها من الآباء الذين بحثوا فيها بكد وجهد حثيثين مضنيين في علم اللغات والأبجديَّات المتداولة في تلك الفترة، يقارنون الأصوات ومخارج النطق في اللغة الأرمنيَّة المستخدمة من أجل توفير جميع متطلبات حروف الهجاء والنقل الصحيح المتكامل للغة على الورق، لم تكفِ المعلومات المتوافرة في أرمينيا حينذاك، لذا تم تكليف «ميسروب» بالسفر إلى الخارج للبحث والاستطلاع في حضارات ولغات أخرى خارج المنطقة، وجاب بلداناً عديدة وجلب معه عدة أحرف إضافية على ما كان تم تجهيزه سابقاً.

وتقول الرواية إنه بعد عودته من رحلته المضنية لم يفلح في تكملة الأبجديَّة المطلوبة، وأثناء رقاده بعد يوم شاق أيقظته يد إلهيَّة كتبت له على حائط غرفته (التي أصبحت مزاراً بعد ذلك) بأحرف من نور 36 شكلاً من الحروف الهجائية التي تشكِّل الأبجديَّة الأرمنيَّة وعلَّمته إياها وأوصته باستخدامها، وقد نسخها ميسروب بسعادة غامرة ونقلها إلى تلاميذه الذين بعد وضع قواعد النحو والصرف إنكبوا متلهفين على ترجمة الكتاب المقدس وكتب الأدب والنظريات العلميَّة وأمَّهات الكتب من اليونانيَّة واللاتينيَّة والفارسيَّة والسريانيَّة وكتب التاريخ التي كانت متوافرة في أرمينيا حين ذاك، ثم أكملت الأجيال اللاحقة ولغاية اليوم إبداع وكتابة الأدب الرفيع في الشعر والروايات التي ترتفع إلى مصاف الروائع الخالدة في الأدب العالمي لما تحتويه من تحف أدبيَّة عظيمة… ليتني استطعت أن أتطرق إليها في مناسبة أخرى وتعريف القارئ العربي كنوز لغتنا الجميلة التي تغنَّى بها أحد شعرائنا ووصفها بأن لها نكهة الشمس، والتي لا يعرف عنها القارئ العربي، ويا للأسف، إلا النزر القليل، وذلك لعدم وجود ترجمات كافية أو انتشارها في محافل الثقافة والأدب، وعلى سبيل المثال كتاب «المراثي / ناريك» للعلاَّمة كريكور ناريكاتسي الذي هو إعجاز فكري ولغوي قلَّما وجد منافس له في الأدب الروحاني العالمي لما يحتويه من بلاغة لغويَّة وعمق وجداني مرهف وورع طاهر، وتعابير ومفردات مستحدثة إجلالية لمقام الله سبحانه تعالى ليس في كثير من اللغات ما يشبهه مثل قوله «جزء مختار».

– حقاً ليس لأي من مخلوقاتك وبلغته المادية وصف جزء بسيط من رحمتك.

– والذي أريتني إياه يا أيها المبدع.

– لأن قوتك هي بالتأكيد الأعظم.

– يعيد البالي إلى بريقه الأول.

– يخلق القوة من العدم. لا وهن فيك مطلقاًً بل أنت طاقة كل شيء.

– ومجرد كلمة منك تكفي لإيصال الأعمال لكمالها (إلى آخره في النص).

أو قراءة لأدباء مثل «رافي» الذي أصبح أبطال رواياته معروفين للعامة كأبطال قوميين جبابرة، وأواديس أهارونيان الأديب الذي لا يمكن أن تقرأ له ولا تحس بأنك حاضر في صميم أحداث موضوع رواياته من فرط نقله الدقيق الصادق للحالة المحيطة والداخلية لأبطال وأفراد رواياته وأحاسيسهم ومشاعرهم وخلجات نفوسهم. وأيضاً من فحول الشعراء الذين أثروا الأدب الأرمني بأشعارهم الرقيقة والمعبِّرة منهم من كتب وتغنَّى بحب الوطن، ومنهم من كان بلبل الحب وكروان العشق والغرام، ومنهم من كتب ومدح فضيلة الأخلاق الحميدة، ومنهم من كان ساخراً ناقداً، ومنهم من تحوَّلت أبيات قصائده إلى حكم خالدة، ومنهم من تفلسف في عمق المسائل الإنسانيَّة والاجتماعيَّة وكذلك المبدع الذي قال إن «الكاتب يكتب حين لا يستطيع أن لا يكتب».

والجدير بالذكر بأن أصوات الأحرف الأبجديَّة الأرمنيَّة الستة والثلاثين تحتوي تقريباً جميع الأصوات في اللغات العالميَّة المحكية على البسيطة حالياً، وإنك تستطيع نقل أي كلمة بالنطق الأصلي بالأحرف الأرمنيَّة، حيث ان عدد أحرف اللغة الأرمنيَّة يزيد على أبجدية غالبية اللغات المعروفة والمكتوبة من 26-32 حرفاً مما يعتبر مصدر ثراء لغوي مميز نفتخر به، وهذا ما يجعل الأرمن ينطقون جميع لغات العالم كلغتهم الأم عند إجادتها.

كل هذا العطاء ما كان له أن يتحقق وهذا الأرث ما كان له أن يتوالى لو لم توجد الأبجديَّة الأرمنيَّة قبل 16 قرناً بفضل أجدادنا الأفاضل ذوي العقول التنويريَّة العظيمة… فتحيَّة لأرواحهم الطاهرة ولذكراهم العطرة الخالدة.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 26-6-2005 

وجريدة «النهار» بتاريخ 4-7-2005

 وجريدة «الكويت تايمز» بتاريخ 21-11-2005 مترجماً للانكليزيه.

أراجع نفسي اليوم وأقر بأنه ربَّما كان أجدر بي أن أعرِّب أول جملة كُتبت بالأبجدية الأرمنيَّة لتترجم على النحو التالي: «لندرك الحكمة والموعظة ونعي كلام النابغين» وذلك عوضاً عن الصيغة التي بدأت بها مقالتي بالعنوان نفسه  في العام 2005 بمناسبة ذكرى احتفالات الأرمن على مضي 1600 سنة على ابتكار أبجديتهم. تلك المناسبة العزيزة التي ما كادت  تمضي من دون أن أعبِّر عن سعادتي الشخصيَّة وحبوري لذلك الحدث الجليل وأغتنم الفرصة أيضاً لأعرِّف إخواننا العرب ببعض التفاصيل المرتبطة بتلك القصة الجميلة لأنَّهم ربما لم يقرأوا عنها شيئاً من قبل.

لا شك في أن المناسبة هي مناسبة عزيزة على قلب كل أرمني وعقله، وهو حدث يذكرنا بأحسن ما كان يمكن أن يحدث للأرمني في تلك البقعة الحافلة بالصراعات في تلك الفترة الصعبة والعصيبة من تاريخه، حيث كانت الكتب الدينيَّة تدوَّن بالسريانيَّة والآراميَّة فقط فضلاً عن الرومانيه.

في ظل الظروف والمناخ  السائدين آنذاك – حيث كانت المخاطبات والأوامر الرسميَّة وكذلك تلاوة الانجيل على المؤمنين حديثي المسيحية، تجري باللغتين السريانيَّة والآراميَّة فقط – كيف كان للشعب أن يحافظ على هويَّته وكيانه من دون أن تكون له آلية يستطيع بها نقل ما يرغب في نقله للطرف الآخر وبدون أن تكون له أبجديَّة خاصة  يعبِّر بواسطتها عما يريد التعبير عنه.

ثم كيف يحكم البلد من غير أن تكون للدولة أبجديَّتها التي تصدر بها القوانين بلغة الرعايا بلا التباس ؟ وهل كان مطلوباً من الشعب أن يجيد لغة ثانية أي لغة المخاطبات الرسميَّة لكي يفهم أو يستوعب التعليمات إلى جانب لغته المحكية اليوميَّة ؟ هل هناك شعب له لغتان مختلفتان إحداهما أصيلة موروثة من الأجداد يتكلَّم ويتغنَّى ويتغزل بحبيبته، ولغة أخرى يتلقَّى بها القوانين الرسمية ويعمل بموجبها ويتعرَّف المسموح والممنوع أو يقرأ كتبه الدينيَّة ويتزوَّد الروحانيات بلغة الغير ؟.

وإذا افترضنا أن الشعب الأرمني استعان بأبجدية إحدى اللغات السائدة آنذاك، فهل كان بالإمكان تكملة الأصوات والأحرف الناقصة ليستطيع النقل إلى اللغة الأرمنية الغنيَّة بالأصوات في لهجتها، بتلك الأحرف الأجنبيَّة المحدودة التي تحتوي كحد أقصى 28 حرفاً، في حين أن اللغة الأرمنيَّة تحتوي على 36 حرفاً ؟ من المؤكَّد أن آباءنا الأجلاَّء ميسروب ماشدوتس وساهاك بارتيف وغيرهما فكَّروا فيها، ومن المؤكَّد أيضاً أنهم لم يجدوا نفعاً بدونها، وإلاَّ لما تكبَّدوا كل تلك المشقات لمحاولة إيجاد أبجدية خاصة بلغتهم، حيث أنَّهم داروا من أجلها في مجاهل العالم.

خيراً فعل آباؤنا الأجلاء بذلك العمل الصالح ومن تبعهم لاحقاً بنشر وتعليم أبجديتنا الكريمة ولغتنا الجميلة، وخيراً فعل من جيل إلى جيل أدباؤنا وعلماؤنا، سواء المدنيين أو نوابغ الأدب الكنسي لخلقهم ذلك الأدب الرائع عندما أنشأوا تلك النفائس الأدبيَّة والثقافيَّة كنرسيس شنورهالي وكريكور ناريكاتسي وموفسيس خوريناتسي وأدباؤنا المعاصرون كميساك ميتسارينتس وهاكوب أوشاكان وباروير سيفاك الذين أثروا كلاً في مجاله تاريخنا وحضارتنا بتلك النصوص الفريدة ورفعونا إلى مصاف الشعوب المتمدِّنة الغنيَّة بالأدب والتراث.

كما أن هؤلاء أعطوا قيمة ومعنى رفيعاً وتكاملاً للغتنا وكذلك أعطوا قوة دفع وحماسة عالية للشعب، إذ إنَّ اللغة كالترس الحامي على صدر الجندي وكالسيف في يده أي في جموع الشعب الأرمني الذي قاوم كل أنواع الشدائد والمحن للحفاظ على هويَّته وعزته وكرامته الوطنيَّة في وجه أطماع الطغاة والغزاة الذين أرادوا السوء لوطننا ولشعبنا، وما كنا جبهناهم لو لم تتكون أبجديتنا الرائعة قبل أكثر من 1600 عام من الآن ونفخت فينا روح الوطنيَّة وأفسحت لنا آفاق التميّز والإبداع وحفظت تاريخنا وملأت نفوسنا بأرقى المشاعر الإنسانية والحماسية، لنقدم لأنفسنا في الوطن أو المجتمعات التي نعيش فيها أجود الأمثلة والنماذج من حب الأوطان وحب الإنسان أياً كان انتماؤه وحب الخير والسلام للجميع.