أنا من قرَّاء مجلة «العربي» منذ 36 عاماً، ولعلَّه مجرد تحصيل حاصل أن أقول إنني من المعجبين بها، بل الأجدر بي القول إنني أقدِّرها تقديراً يليق بمقام المعلمين الموجهين العظماء.

تعلَّمت منها الكثير والمفيد في شتَّى مجالات العلم والمعرفة، تعرَّفت إلى كبار الأدباء والمفكِّرين، وغصتُ بها في أعماق تفسيرات الفلاسفة والعلماء، تعلَّمت منها حسن التعبير وقوة الحجة وشكَّلت منها قناعاتي، فهي المختصر المفيد لأجود ما أنتجته الحضارة البشرية في جهات الدنيا الأربع. لم أهمل أي عدد من أعدادها طوال تلك الفترة، بل حفظتها جميعاً.

المؤلف مع البروفسور كوركين ميليكيان أمام نصب «الجد والجده» في ارتساخ (غاراباغ)

أما سبب كتابتي هذه المرة لكم دون الكثير من المرات التي أردت أن أكتب وما أستطعت، هو الاستطلاع عن أذربيجان المنشور في العدد «473» للدكتور محمد المنسي قنديل الذي يُشكر على مجهوده لتعريف قرَّاء «العربي» بإحدى دول القوقاز وشرح معاناة الشعوب القوقازية المتحرِّرة من الحكم السوفييتي السابق والوارثة لتناقضات وسلبيات السياسة التي خلَّفها ذلك الحكم الذي حوَّل جيران وأصدقاء الأمس إلى أعداء.

ولكنني أرغب في أن أقول له بأنك ظلمت الأرمن في استطلاعك رغم أنك كنت جاداً وصريحاً فيه. إنَّني لم استغرب تعاطفك مع الشعب الآذيري الصديق في محنته الحالية، والتي نتج بعضها من تحرره من الحكم السوفييتي وبعضها الآخر يعانيه بسبب الخلاف والحرب مع الأرمن في إقليم غاراباغ.

إن آراءك عن المشكلة ومسبّباتها وما يتعلَّق منها بالأرمن ليس ما أرغب في مناقشته وأعلم أنه من الطبيعي أن تكون هناك وجهات نظر مغايرة في مثل هذا النوع من المشكلات الإقليمية وأن الجميع أحرار في اتخاذ الموقف الذي يرغبون فيه أو يقتنعون به.

ولكن ما أرغب في طرحه هو بعض الأجوبة عن أمور ثلاثة تضمَّنها استطلاعكم وهي: أولاً ما أثار دهشتكم حول الوضع السياسي لأرمينيا، وثانياً مؤتمر لوزان، وثالثاً طرح أسئلة كثيرة ظلت بلا إجابات، مما جاء في بعض فصول استطلاعكم.

أولاً: بخصوص دهشتكم من عدم وجود أي نوع من الوجود السياسي لأرمينيا قبل ذلك وأنه تم تشكيلها تحت إمرة الإتحاد السوفييتي. فيجب القول أنه عند إنضمام أرمينيا إلى الإتحاد السوفييتي كانت دولة مستقلة ولها كيانها الدولي بموجب معايير ذلك الزمان، وأنها انضمت كجمهورية مستقلة بفارق أيام عن أذربيجان وجورجيا وأن إجراءات الإنضمام تمت مثلها مثل بقية الدول التي تشكَّل منها في ما بعد الإتحاد السوفييتي.

ثانيا: في ما يتعلق بإنعقاد أول مؤتمر للأرمن في مدينة لوزان بسويسرا فليس في هذا الأمر أي سبب يعاب على الأرمن، لأن سويسرا بلد الحريات والحياد، ولوزان مدينة المؤتمرات المعروفة، ومئات المؤتمرات تعقد في تلك المدينة الهادئة كل سنة، واستغرب المصادفة التي ذكَّرتكم بالمؤتمر الصهيوني ذاك !.

ثالثاً: أما بخصوص المقطع قبل الأخير في مقالتكم فاسمحوا لي أن أقول بأنه غير منصف. والانتصار الذي حقَّقه الأرمن جوابه في قوله تعالى: «إن ينصركم الله فلا غالب لكم» وقوله تعالى: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة». صدق الله العظيم.

وإن تشبيهكم الأرمن بإسرائيل بعيد كل البعد عن الحقيقة فليس كل بلد صغير انتصر على بلد كبير يشبه إسرائيل، فالشيشان على بعد كيلومترات من أرمينيا أي في أقصى شرق أوروبا، والبوسنة في وسطها مثالان حيَّان معاصران يجدان انتصار الشعوب الصغيرة الموجودة في محيط مختلف ومحاصرة من قبل دولة عملاقة.

فهذه الشعوب المؤمنة بالله وبقضيتها والمضحية بأبنائها في سبيل وطنها لا تكون بالضرورة مثل إسرائيل.

نُشرت في مجلة «العربي» الكويتيَّة، عدد تمّوز 1998.

إن ما دفعني إلى كتابة هذا المقال كانت رسالتي الاعتراضية على استطلاع أجرته  مجلة «العربي» الكويتية  ضمن استطلاعاتها الشهرية، كتبه د. محمد المنسي قنديل واشتمل على الكثير من المغالطات حول نزاع  غاراباغ بين أرمينيا وأذربيجان عن «المعتدي» «والمُعتدى عليه»، كما أن الكاتب ظلم الأرمن بإظهارهم كأنهم هم المعتدون والمتسبِّبون بمعاناة المهاجرين الآذريين، إلى غيرها من التجنيات على الطرف الأرمني والتي لا يمكن السكوت عنها.

تصدَّيت لإدعاءات الكاتب الذي بدا واضحاً أن انطباعه كان من وجهة نظر أحادية، لذا وجدت من واجبي أن أصحح المغالطات التي حفل بها الاستطلاع، ودعوت الكاتب في نهاية ردي وتفنيد اتهاماته للأرمن إلى زيارة أرمينيا ليستطلع على أرض الواقع الوجه الآخر من الحقيقة.

وبعد متابعات  عديدة  للموضوع واتصالات هاتفية بمجلة «العربي» والإصرار على نشر رسالتي تكللت جهودي بالنجاح، وُنشر ردي كاملاً  ما عدا الدعوة إلى زيارة أرمينيا  وغاراباغ، وعلمت في ما بعد أن د. محمد المنسي قنديل تلقى العديد من الردود على هذا الاستطلاع، وكانت متفاوتة اللهجة والشدة من كثير من الأرمن حول العالم، لكن مجلس تحرير المجلة قرر نشر رسالتي دون سواها.

وبعد نشر رسالتي في الصفحة الأولى في زاوية «ردود القراء»  تحدثت إلى د. قنديل حول التعليق الذي ذيّل به ردي ودافع فيه عن استطلاعه ووجهة نظره، لكنه وافق على بعض اعتراضاتي ومنها تشبيه اجتماع الأحزاب الأرمنية في لوزان بسويسرا باجتماعات المنظمات الصهيونية في البلدة نفسها.

أثمر تعليقي على استطلاع « العربي» حول جمهورية أذربيجان إيصال جانب من الحقيقة والدفاع عن الأرمن وتبيان الظلم الذي تعرضوا له، فضلاً عن التواصل مع  أسرة تحرير المجلة  ونشر  بعض كتاباتي فيها مثل مقالتي « فن المعمار وفن التشدد» التي نُشرت في  أول أعدادها بعد احتفالها بمرور نصف قرن على تأسيسها، كما تشرَّفت بحضور فعاليات هذه الاحتفالية وسعدت بالتعرف إلى أدباء ومفكرين وكتاب وإعلاميين عرب كبار.