الأرمن والأتراك والفرنسيون

 

أستغرب بأسى التصريحات النارية التي يطلقها المسؤولون الأتراك هذه الأيام وعلى أعلى المستويات، والتظاهرات أمام السفارة الفرنسية في تركيا وفي دول عدة، حيث الجميع يستنكرون مشروع القانون الذي أقرَّه البرلمان الفرنسي لتجريم كل من ينكر ويشكك في حقيقة الإبادة الأرمنية التي نفذت على يد العثمانيين في خضم الحرب العالمية الأولى وراح ضحيتها 1.5 مليون أرمني. استغرب ويستغرب معي كل انسان على أقل معرفة بالتاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط وشرق أوروبا، حيث إن الحدث معروف من الجميع وموثق في الوثائق ومدموغ في ذاكرة كل إنسان ينتمي إلى المنطقة.

Photo credit Armenpress

أتساءل ما بالهم جيراننا الأتراك أقاموا الدنيا ولم يقعدوها استنكاراً لهذا القرارالإنساني ؟ فبدلاً من التصالح مع الذات وتبني مبدأ «الاعتراف بالذنب فضيلة» وإعطاء كل ذا حق حقه، يكيلون الاتهامات يميناً ويساراً، تارة بحجة عدم صحة وقوع المجزرة أصلاً، ومرة عدم جواز البحث في الموضوع سياسياً، بل وجوب تحويله (بقصد تمييع القضية) إلى المؤرخين للبحث فيه ومناقشته، وتارة بأن عدد الضحايا مبالغ فيه، وتارة بأن الأرمن هم الذين اعتدوا على الأتراك وليس العكس، وآخر صرعة الاتهامات بأن فرنسا نفسها يجب أن تنظر إلى تاريخها الاستعماري الدامي أولاً بدل اعطاء الأتراك دروساً في الأخلاق إلخ…

في معمعة نشرات الأخبار في الفضائيات العربية والتعليقات والمقابلات التي تجرى، وفي خضم التحليلات المتناقضة في تلك المحطات والوكالات أو الصحف المحلية أو العالمية، رأيت أن أوضِّح بعض الأمور حسب تسلسل الإتهامات منعاً للالتباس.

إن صحة وقوع المجزرة أمر لا لبس فيه ومعلوم لكل العالم (ويا للأسف ما عدا الأتراك)، نعم الموضوع ليس أكاديمياً، بل سياسي واجتماعي وأخلاقي ويتعلق بحق دم مهدور وكرامة مليون ونصف مليون انسان كانوا يعتبرون مواطنين عثمانيين , ذنبهم الوحيد وقوفهم حاجزاً أمام الأطماع التوسعية الطورانية وكذلك وجودهم على خط التماس في الحرب مع الروس وعلى أراض كانت أرمنية قبل الغزو والاحتلال العثماني. وما نفع هدر الوقت بتشكيل لجان لنبش التاريخ للبحث عن واقعة واضحة وجلية، وما جدوى التأكد من الأعداد سواء بالزيادة أو النقص حيث أنَّ من قتل نفساً بغير ذنب، فكأنما قتل الناس جميعاً.

أما بدعة بث شرائط تظهر فيها ضحايا من أتراك بزعم أنهم قتلوا على يد الأرمن فهذا افتراء واضح يصعب إيجاد من يصدقه، حيث إنَّه لا يعقل أن امبراطورية جبَّارة تحارب بجيوش جرارة في آسيا الوسطى وأوروبا وشمال أفريقيا باقتدار، لا تستطيع حماية مواطنيها داخل بلدها مع العلم أن جميع رجال الأرمن كانوا في صفوف الجيش على الجبهات يدافعون عن الأراضي التركية حينذاك.

أما ما يخص استراتيجيتهم الهجومية على الخصم باتهام برلمان فرنسا بأن قراره غير ديموقراطي من ناحية عدم إمكانية التباحث في الموضوع بعد صدور القرار، وكذلك اتهام دولة فرنسا على تاريخها الاستعماري. هنا الدهشة تفرض نفسها مرة أخرى حيث أن تركيا ذاتها هي التي أصدرت أخيراً قانوناً لتجريم أي إنسان يأتي على ذكر جملة «مجزرة الأرمن» على لسانه، وبأي صيغة كانت على الأراضي التركية، والعجب أن هذه الدولة تتجرَّأ على أن تلوم الآخر لإتخاذه قراراً مشابهاً وتتجاهل التنكيل بالروائي الفذ الشجاع السيد أورهان باموك الذي جُرجر إلى المحاكم لمجرد تصريحه لإحدى الصحف السويسرية بضرورة عدم إنكار الدولة قتل مليون أرمني، وتنسى بسرعة الاهانات التي تعرَّض لها الكاتب كما رأينا على الفضائيات. ويا لسخرية القدر، فقد نال الكاتب جائزة نوبل للآداب هذا العام، في اليوم الذي أصدر فيه البرلمان الفرنسي قراره العادل (يا ما أنت كريم يا رب تُمْهِل ولا تُهْمِل) وإنني في المناسبة هذه أهنئ الكاتب أورهان باموك على جائزته الرفيعة وشجاعته العظيمة، وأدعو بقية الأدباء والسياسيين الأتراك إلى التحلي بالمصداقية والشهامة.

أما في ما يخص علاقات كل من الدولتين، فلنقل المتعاديتين سابقاً والمتصالحتين بالمعايير الدولية حالياً، وبعد مضي عقود على الاستعمار أو الاحتلال، فإن فرنسا تأوي ملايين الجزائريين والمغاربة الذين يحوِّلون بلايين الجنيهات إلى أوطانهم و90% منهم يفضل البقاء عند مستعمريهم لعيشتهم الكريمة الهنية، وهي على النقيض تماماً من وضع الأرمن المقهورين في تركيا الذين لا يستطيعون على سبيل المثال، وليس الحصر، التحدث بلغتهم الأم ولا الإفصاح عن أصلهم، وأملاكهم مصادرة ومؤسساتهم مشلولة منذ عقود. أما فرنسا، على سبيل المثال، فتقف إلى جانب الجزائر وتؤازرها من النواحي السياسية والاقتصادية دولياً وعملياً ربما للتكفير عن ماضيها، وهذا موقف مشرِّف منها، أما ما تفعله تركيا مع أرمينيا اليوم فهو عكسه تماماً وخال من إحساس الجيرة والصداقة وأدنى درجات الرحمة، حيث تحاصر الحدود الدولية الوحيدة مع العالم الخارجي قاطعة طرق التموين والطاقة بهدف تدمير اقتصاد أرمينيا وشعبها، كما امتنعت عن بدء علاقات دبلوماسية مع أرمينيا قبل قبولها لشروط تركيا التعجيزية وأولها عدم ذكر المجازر أو الاحتفال بذكراها وإشتراط حل خلافنا الحدودي مع أذربيجان من الطرف الآخر من الحدود أي تركيا، وهي ليست طرفاً فيه والمراهنة على إركاع الشعب الأرمني وإذلاله وتطبيق سياسة ليّ الذراع المتكافئ لقبول شروطهم الظالمة (فيا له من تشابه مواقف).

نعم استغرب ويعتصر قلبي من كل هذا ويستغرب معي جميع أحرار المجتمعات المتمدنة من عناد النظام التركي لرفضه الجنوح إلى السلم والمصالحة والتحلي بالروح النبيلة السامية التي يجب أن تتمتع بها أي دولة ترغب في دخول النظام الدولي الحديث المتحضِّر، خصوصاً المجتمع الأوروبي.

أما شكري وامتناني فللبرلمان الفرنسي لاتخاذه ذلك القرار الشجاع العظيم فلن تنسيني إياه ضجة يثيرها أي كان.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 19-10-2006 ،

      وفي جريدة «النهار» بتاريخ 19-10-2006

كتبت هذه المقالة بعد بضعة أيام فقط من رسالة الترحيب بالرئيس شيراك في أرمينيا بمناسبة مشروع القانون الذي أقرَّه البرلمان الفرنسي لتجريم ومحاكمة كل شخص ينكر ويشكك في المجازر الأرمنية على الأراضي الفرنسية والإحتجاجات التي جرت أمام السفارات الفرنسيَّة من قِبل الأتراك حول العالم في حينه، وكنت قد دافعت عن القانون وأكَّدت ضرورة العمل به حفاظاً على السلام  العالمي  ولتجنب تكرار المأساة مرة أخرى، إذا ما بقي المجرم طليقاً غير مدان، وشكرت كذلك البرلمان الفرنسي على قراره الصائب الذي أسعد قلوب الأرمن وأحرار العالم على حد سواء.