ها هي دولة متحضرة أخرى تعترف بواقعة المجازر التي لحقت بالشعب الأرمني في بداية الحرب العالمية الأولى من قبل الأتراك العثمانيين. ففي 22 أبريل 2004، وقبل يومين فقط من الذكرى 89 للمجزرة التي تصادف 24 أبريل من كل عام، صوَّت البرلمان الكندي بأغلبية ساحقة على الاعتراف رسمياً بالمجازر التي لحقت بالأرمن في الحرب العالمية الأولى، واعتبر يوم 24 أبريل من كل عام ذكرى لهذا الحدث في عموم كندا، وهكذا تضاف دولة أخرى إلى الرصيد بعد العديد من الدول وعلى رأسها فرنسا الحرة التي تسبب قبول برلمانها للحدث نفسه بضجة عالمية، وبشكل خاص في تركيا التي أقامت الدنيا ولم تقعدها لفترة طويلة سنة 2001، وبهذا تم تتويج مجهودات الجاليات الأرمنية بنجاح، والتي تعمل دون كلل حيثما وجدت لإثبات الظلم الذي وقع عليها بخسارة مليون ونصف المليون أرمنياً غالبيتهم من النساء والأطفال والعجائز الذين سيقوا إلى الصحارى الواقعة تحت سلطة الحكم العثماني في ذلك الوقت، في حين كان شباب الأرمن ورجالهم يحاربون في الجبهات إلى جانب جنود تركيا ضد أعداء الامبراطورية.

شارك رئيس الوزراء ترودو في “مسيرة الإنسانية” في مونتريال في مايو 2015 (صورة جاستن ترودو / تويتر)

وبقدر فرحة الشعب الأرمني بهذا الحدث الجليل الذي بُشِّر به صباح يوم الخميس 22 أبريل 2004 من أوتاوا في كندا، فإنَّه يأسف بالمقدار نفسه لعدم اعتراف الولايات المتحدة حتى الآن بالواقعة نفسها وبالصراحة ذاتها، كما في إيطاليا وفرنسا وغيرهما من الدول. أقول بالصراحة نفسها للإيضاح، حيث أن هناك مشاريع اعتراف بالواقعة من قبل الكونجرس ومجلس الشيوخ ورئيس الدولة، ولكن تحت تسميات مختلفة مثل «حوادث مؤسفة وقعت للأرمن» أو «كظلم ناتج من ظروف حرب»… إلخ. وذلك كله لأسباب استراتيجية سياسية وبضغط من الحكومة التركية. وعلى كل حال، ورغم معرفة الأرمن وتقديرهم وامتنانهم لأهمية الاعترافات التي تتوالى بشكل مطرد من سنة إلى سنة في كثير من الدول المهمة لقضيتهم، لكن المشكلة الرئيسية تظل بلا حل والمجهودات غير ذات جدوى دون اعتراف الدولة التركية، وبنفسية مترفعة للجلوس مع الأرمن لبحث العداوة المستمرة وإنهائها بين الشعبين الجارين منذ 90 سنة.

كم سيكون سعيداً ذلك اليوم الذي سيلين قلب رئيس الوزراء التركي (وأرجو أن يكون رئيس الوزراء الحالي السيد رجب طيب أردوغان) وينفتح عقله بعد إزالة غشاوة الإنكار المستمر عن العيون، فيتناول الموضوع بأسلوب حضاري وأخلاقي منطلقاً من المبدأ القائل «الإعتراف بالذنب فضيلة» وبمنطق اليوم يسمى فضيلة وتمدناً وتحضراً ومبدأ إعطاء كل ذي حق حقه.   

وأرى أن السيد أردوغان رئيس وزراء تركيا والسيد غول وزير الخارجية يتمتعان بأهلية رفيعة لفتح ملف التصالح مع الأرمن الجار الأقرب إلى قلب الأتراك منذ عشرة قرون، من حيث تقارب العادات والتقاليد والفنون بأنواعها وحسن المعاشرة، وبصرف النظر وبعيداً عن ضغط التأثير الدبلوماسي بضرورة حل القضية الأرمنية، أولاً للسماح لتركيا بالدخول إلى الإتحاد الأوروبي، حسب اشتراطات البرلمان الأوروبي، وبعيداً كذلك عن أي مكاسب وخسائر سياسية وقتية أخرى، بل لأجل شهامة دولة وأخلاقياتها النبيلة ذات موقف سام وضمير حي واقعي وبعيد النظر . جانحاً للسلم، يعلن صبيحة ذلك اليوم المشرق… ها نحن مستعدون الآن للتباحث معكم وسماع مطالبكم وحل قضيتكم حلاً عادلاً يرضيكم ويرضينا، وبمقاييس المجتمع الدولي والضمير الإنساني، ونثبت بهذا مدى تطورنا كشعب متمدن على المستويين الرسمي والشعبي والجهر علناً للجميع، وأوروبا بالذات، بأننا أسوة معكم تحضراً وعدالةً.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 1-5-2004 

وفي جريدة «النهار» بتاريخ 4-5-2004 

هي أول ما كتبتُ ضمن  سلسلة مقالاتي الخمس التي تحمل عناوين متشابهة: «الأرمن والأتراك والكنديون – الأرمن والأتراك والأوروبيون – الأرمن والأتراك والفرنسيون – الأرمن والأتراك والأميركيون» وآخرها «الأتراك والأرمن والمؤرِّخون»، وهي في الحقيقة مقالات كتبتها بمناسبة اعتراف برلمانات أو حكومات تلك الدول بالإبادة الأرمنية رسمياً، ومنهم من جعل ذلك اليوم ذكرى رسمية يعاد تردادها  كل عام في التاريخ نفسه، ومنهم من اعترف بها وتم تسجيلها في سجلات البرلمان كحدث رسمي وموقف غير قابل للنقاش للقضية المذكورة. إنَّ جميع تلك المقالات التي سطَّرتها في تلك المناسبات كان موضوعها الجوهري هو الشكر الجزيل لتلك الدول التي اعترفت بقضيتنا , حيث شكرت شعبها وبرلمانها والقائمين عليها، كما أن هذه المناسبة كانت فرصة لتذكير القارئ العربي بواقعة الإبادة ومحاولة  ترسيخ حقيقة الظلم الذي وقع على الشعب الأرمني وثني القراء عن تصديق الدعاية المغرضة التي تسوقها أجهزة الإعلام التركيَّة للتشويش على الأطراف المؤيِّدة لحقيقة الإبادة. وعلى كل حال فكل مقالة من تلك المقالات لها خصوصيتها من حيث الفحوى. ففي نهاية مقالتي «الأرمن والأتراك والكنديون» دعوت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وعبد الله جول الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك، دعوتهما إلى إزالة غشاوة الإنكار عن عيونهما وممارسة الشهامة وسمو الأخلاق والاعتراف بالمآسي التي سببَّها أجدادهم لأجدادنا ويستمر ليومه زمن الأحفاد وطيّ صفحة العداوة بين الشعبين إلى الأبد.