قرأت بتمعن المقالتين اللتين نشرهما السفير التركي في جريدتكم الغرَّاء يومي 1 و 6 مايو 2007 في مناسبتين مختلفتين: الأولى كانت رده على مقال «الأرمن (24 أبريل)»، والأخرى كانت تعليق سعادته على التحقيق الصحافي (الريبورتاج) الذي قامت به جريدتكم مشكورة بمناسبة إحياء ذكرى المذابح الأرمنية في عاصمة أرمينيا (يريفان) وتم نشره في «القبس» على صفحتين يوم 30 أبريل 2007 بشكل لائق وجميل.

الهجره واهوالها

وحيث إنَّ المقالتين تحتويان على كثير من المغالطات والتهم الباطلة، فقد وجب الرد والتصويب بعد دمج المقالتين معاً حيث أن فحواهما واحد تقريباً، ومكرران منذ أكثر من 50 عاماً، وإنني بعد الاعتذار سوف أتناول أهم ما جاء فيهما فقط. فمثلاً جاء في الكتاب أن الامبراطورية العثمانية لم تمارس التطهير العرقي على الأرمن، بل أمرتهم بالانتقال إلى جنوب البلاد لسلامتهم ليس إلاَّ… إلخ، وهنا يطرح السؤال نفسه بطبيعة الحال، إذا كانت العملية عملية تنقل فقط على مساحة أراضي الدولة نفسها، إذاً فأين هم جماهير هؤلاء الأرمن اليوم حيث إنه لا توجد عائلة أرمنية واحدة في منطقة الأناضول وأنطاكية بأكملها بدءاً من الحدود الايرانية أقصى الجنوب الشرقي ولغاية لواء اسكندرون على البحر المتوسط، أكرر… أين هم هؤلاء الأرمن ؟ أين هم السكان الأصيلون الذين كانوا يعيشون في جنوب شرق تركيا الحالية منذ 3000 سنة ؟ أما إذا كان المقصود بجنوب الامبراطورية هي الأراضي السورية أو العراقية التي كانت بدورها أيضاً خاضعة للامبراطورية العثمانية، إذاً فالأمر مختلف، لذا نشكرهم على عملهم هذا وحمايتهم لنا، والآن لأنَّنا نرغب في العودة إلى وطننا الأصلي نرجو منهم إفساح الطريق لنا وإعادة أراضينا وأملاكنا وتعويضنا عن أضرارنا وخسائرنا من البشر والحجر، ونحن مستعدون بدورنا للتصالح والتجاوب «مع الجهود الجبارة التي تبذلها الحكومة التركية للإصلاح بين الشعبين ذوي العلاقة»، كما جاء على لسان سعادة السفير.

أما إذا لم تكن الحال هكذا… إذاً فليسمحوا لي ليقولوا ماذا يسمى هذا الذي حدث لثلاثة ملايين أرمني كانوا يعيشون على تلك الأراضي لهم حضارتهم العظيمة، غير أن نصفهم تعرَّض للإبادة وهذا هو بيت القصيد، ونصفهم الآخر تشتت حول العالم ولم يبقَ لهم غير إحياء ذكرى شهدائهم كل سنة في 24 أبريل.

ثانياً وعن الإدعاء بأن الرئيس الأرمني روبرت كوتشاريان لم يرد إيجابياً على دعوة رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان لتشكيل لجنة مشتركة من المؤرخين والخبراء في الدولتين لدراسة وبحث أحداث وتطورات 1915، وفتح الأرشيف التركي وأرشيف دول أخرى ذات الصلة، فهنا من حسن الحظ الجواب جاهز ومعروف للجميع، حيث أن أرشيف عشرات الدول القريبة من المنطقة والبعيدة عنها، العربية منها والأجنبية، وحتى الحليفة منها تؤكد بشكل واضح وصريح التهجير والمجازر سواء في الأرشيفات الرسمية لتلك الدول أو من خلال صفحات الجرائد الصادرة في تلك الدول في ذلك الوقت، إما عن طريق تغطية اخبارية أو تصريحات من المسؤولين أو استنكارات إنسانية من كبار الشخصيات العربية والأوروبية وحتى الأميركية مثلاً على لسان سفيرها هنري مورغنتاو، إذاً ما فائدة تشكيل لجان لإثبات حادثة واضحة وجلية ومعترف بها في برلمانات أكثر من 25 دولة حول العالم بدءاً من لبنان الأقرب وصولاً إلى أوروغواي الأبعد، مروراً بفرنسا وألمانيا والنمسا وكندا وأربعين ولاية من الولايات المتحدة الأميركية الحادية والخمسين، إذاً لماذا إطالة الوقت بقصد تمييع القضية ؟

أما ما يخص الأرشيف التركي الذي فُتح للمهتمين (وللعلم قبل بضع سنوات فقط) بعد حظر أكثر من 80 سنة رغم الدعوات العديدة التي وجِّهت إلى الحكومة التركية لفتحه أمام المهتمين المحايدين حينذاك من دون جدوى، وان ضجة دعوة فتحه اليوم للمؤرخين والخبراء يذكِّرني بالمثل القائل «هل هناك أحد يقوم بدعوة الدب إلى كرمه (بستانه) قبل قطف ثماره ؟». الجواب معروف طبعاً. لا أحد يعملها وهم أيضاً ما كانوا يعملونها !

ثم إن هناك تشبيهاً مطابقاً آخر لدعوة رئيس وزراء تركيا لرئيس أرمينيا لموضوع فتح الأرشيف المذكور وهو مشهد ذلك الجار القوي الذي يلوي ذراع جاره من الخلف بيده اليمنى ويدفعه إلى زاوية الحائط بشدة ويضغط على رقبته بيده اليسرى محاولاً خنق أنفاسه… وفي الوقت نفسه، ويا للعجب، يلقي عليه قصائد نبيلة عن الأماني الصادقة بتكوين علاقات جوار وصداقة جيدة معه… كما جاء في المقال الثاني لسعادة السفير، متجاهلاً استغاثة جاره ودعوات المجتمع العالمي له برفع الحصار، بل إصراره على تشكيل تلك اللجنة حالاً، وإلاَّ فالوضع سيبقى على حاله، ولتسهيل وتوضيح التشبيه للقارئ نقول أن المقصود طبعاً هو من أرض الواقع السياسي حيث أن تركيا من جهة الغرب وحليفتها أذربيجان من الشرق تفرضان حصاراً حدودياً مميتاً على أرمينيا منذ 15 عاماً مغلقتين جميع الطرق الدولية ووسائل التموين من طاقة ومواد تموينية ضرورية من العالم الخارجي، مسببتين أضراراً اقتصادية واجتماعية هائلة للدولة الأرمنية الضعيفة أصلاً، كما أن الرئيس الأرمني رد على رئيس الوزراء التركي بصراحة، معرباً عن أن أرمينيا لا تمانع أبداً في إيجاد تعاون أفضل مع جيرانها، وكذلك بتشكيل أي لجنة بهذا الخصوص، ولكن ليس بالوضع الاجباري المذكور أعلاه، بل بعد رفع الحصار أولاً وعدم الإمتناع عن بدء علاقات دبلوماسية طبيعية معها، ثانياً، والتوقف عن إعاقة مصالح أرمينيا الاقليمية ومع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة… عندئذ لا مانع من الاتفاق على أي صيغة لبحث ذلك الموضوع وغيره، إذ كيف ستعمل تركيا رسمياً مع دولة، لم تباشر معها علاقة دبلوماسية أصلاً… وبرأي الأتراك أن كل العالم مخطئون وهم الصادقون فقط.

أما ما يخص الإرهابيين الذين جاء ذكرهم في المقال من دون الدخول في التفاصيل، فهؤلاء كانوا ضمن الموجة الثورية اليسارية المنتشرة في تلك الحقبة من التاريخ في المنطقة والعالم أجمع والشعب الأرمني يستنكرها وليس مسؤولاً عنها إطلاقاً، مثلما تستنكر الحكومة التركية الأعمال الارهابية التي تجري على أراضيها حالياً.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 24-5-2007

كتبت هذه  المقالة، رداً على السفير التركي لدى دولة  الكويت، واعتراضاً على ما كتبه عن الأرمن وليس العكس، حيث كان عادة هو الذي يبادر بالرد على مقالاتي المنشورة في الصحف الكويتية.

تناولت  المقالتان المقصودتان موضوعين مختلفين عن القضية الأرمنيَّة: الأول حول  رد السفير على مقالة بعنوان «الأرمن 24 أبريل» بقلم أحد المهتمين الأرمن التي نشرت في جريدة «القبس» الكويتية، والثانية كان عتاب السفير على رئيس تحرير «القبس» بسبب التقرير التي غطَّت به الجريدة احتفالات أرمينيا بإحياء ذكرى الشهداء عند النصب التذكاري المعروف والمسمَّى «زيزيرناكابيرت» في عاصمة أرمينيا يريفان والذي يزوره مئات الألوف من الأرمن المقيمين في يريفان أو القادمين إليها في ذلك اليوم من أرجاء المعمورة لتقديم واجب العزاء والاحترام لضحايا المجزرة، وكان وفد من جريدة «القبس» قد زار يريفان بهدف نقل هذا الحدث الجليل. قامت المراسلة بمهمتها على أكمل وجه وقدَّمت للقارئ العربي تقريراً عن عمق مشاعر الإنسان الأرمني في هذه المناسبة. 

على كل حال، مقالتي كانت طويلة نسبياً وأعطتني الفرصة لتفنيد كل الافتراءات والمغالطات التي جاءت على لسان السفير وكانت فرصة أيضاً للتأكيد على بعض الحقائق بخصوص قضيتنا التي ربما كانت قد فاتت على القارئ العربي. وكان هذا الريبورتاج  موضوع الساعة في الكويت حينذاك.

ومن الطبيعي أن يردَّ السفير التركي على مقالتي بنفس الجريدة الانكليزية التي كنت قد نشرت مقالتي فيها، إضافة إلى جريدة «القبس» العربيَّة، وكان رد السفير كالعادة إنكار ما جاء في مقالتي واتهام الأرمن بعدم التجاوب مع دعوات الحكومة التركية للتصالح وعدم التعاون معها في مجال البحث المشترك في أرشيفات البلدين، وإنه يجب على الأرمن التصالح مع الماضي والتطلع إلى المستقبل وإقامة علاقات حسن الجوار مع تركيا… إلى آخره بدل أن يكون العكس.