قبول البرلمان الفرنسي بواقعة مذبحة الأرمن سنة 1915، في الجلسة المنعقدة في يناير سنة 2001، والضجة التى صاحبت الحدث في البرامج التي خصَّصت حلقات منها لمناقشة الموضوع كبرنامج «الإتجاه المعاكس» في محطة «الجزيرة» التلفزيونية، الذي يقدمه الدكتور فيصل القاسم. وهذه الأسئلة على لسان الدكتور فيصل قدَّمت للمستمع تساؤلات مهمة. لذا سأبدأ وكأني أجيب عن أسئلة مقدِّم البرنامج، ومن ثم أعلِّق على بعض ما قاله وطرحه الضيف التركي د. أودن.

المجازر كما تخيَّلها الفنان جانسيم

 * لماذا سحبت تركيا سفيرها من فرنسا لمجرد الإقرار بحدوث مجازر الأرمن ؟

– كان متوقعاً أن ترتعب تركيا وتسحب سفيرها من بلد أزاح الستار عن الحقائق التي طالما رغبت تركيا في عدم كشفها، وهدَّدت فرنسا وإيطاليا وغيرهما بالويل والثبور وعظائم الأمور لأنَّهم اعترفوا (مجرَّد اعتراف) بالمذابح التي تعرَّض لها الأرمن على أيدي الأتراك.

* لماذا تحاول تركيا التعتيم دائماً على القضية الأرمنيَّة ؟

– في غيـاب العقلية العصـرية المتحضِّرة وفي غياب الفضائل النبيلة كالإعتراف بالذنب، فإنَّه أمر طبيعي أن يكون رد الفعل وأسلوب معالجة الخطيئة هو التعتيم أطول مدة ممكنة، ولعلَّ الأتراك اقتدوا بنظرية حليفهم أدولف هتلر الذي قال مرة: «ومن يتذكَّر اليوم مجازر الأرمن ؟. والزمن ذاكرته ضعيفة وسوف ينسى».

 * هل الحديث عن إبادة أكثر من مليون أرمني على أيدي الأتراك إفتراء أم حقيقة ؟

– إبادة الأرمن هي حقيقة لا لبس فيها، كما يشيعون هم، بل مع سبق الإصرار والترصد، وهي رغبة موروثة منذ عصور غابرة وسلاطين سابقين، لأنَّهم كانوا يعتبرون الأرمن وأرمينيا عموماً شوكة في خاصرتهم الشرقية يجب اقتلاعها في أول فرصة. وكان لهم ما أرادوا في خضم الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفيَّة والإنقلاب على السلطان عبد الحميد.

* أليست هناك مبالغة في حجم مذابح الأرمن ؟

– نعم من المحتمل أن يكون هناك خطأ في التقدير إمَّا بالزيادة أو بالنقصان، وفي القرآن الكريم يقول الله عز وجل: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا 

* هل كان الأرمن بدورهم براء من دم الأتراك ؟

– الجواب عن هذا السؤال بسيط وسهل، إذ يكفي أن تعرف من كان آنذاك الطرف المحتل: إنَّها الإمبراطورية العثمانيَّة لستة قرون، ومن كان الأعزل والمغلوب على أمره، انهم الأرمن. ومن كانت دولة وإمبراطورية وعندها جيوش نظاميَّة تتحدَّى القياصرة في الشرق والملوك في الغرب ؟ وإذا افترضنا عدم براءة الأرمن من بعض قطرات دم الأتراك فهذا كان بسبب المقاومة الباسلة المشروعة لحماية العرض والشرف والدفاع عن النفس ليس إلا.

أما عما طرحه مقدِّم البرنامج أو الضيف التركي من أسئلة، فنجيب كالآتي:

سأل المقدِّم ضيفه الأرمني لماذا تأخَّرتم في المطالبة بحقكم 85 سنة، أما كنتم تستطيعون مثل اليهود الذين حاسبوا الألمان على مذابحهم لهم وأخذوا التعويضات اللازمة، والجواب منطقي وبسيط لأسباب كثيرة: منها أن اليهود الذين نجوا من المذبحة ليسوا هم الذين استرجعوا حقوق ضحاياهم، بل اليهود الذين كانوا خارج ألمانيا مثل أميركا وأوروبا، ولهم النفوذ القوي في السياسة الدولية التي دعمت القضية الصهيونية ودعمت طلب التعويضات لتقوية قضية اسرائيل على حساب ألمانيا والعرب، والسبب الآخر أن ألمانيا خسرت الحرب واستسلمت، والمثل يقول: «إذا وقع الجاموس كثرت السكاكين»، فظروف الأرمن لم تكن كذلك إطلاقاً إذ لم يكن هناك أرمن خارج المنطقة المنكوبة لدعم القضية، كما أن تركيا ظلَّت قوية أيام كمال أتاتورك، وأرى أن التشبيه غير مطابق أصلاً. أما لماذا بدأنا الآن فقط وليس من قبل، وذلك بسبب أنَّنا كنا بعد الخمسين سنة الأولى بعد المجزرة نبحث عن لقمة العيش فقط، ولم يوجد في الجيلين التاليين للمذبحة أي ناشئ درس أكثر من المرحلة الإبتدائية، بل كان الأرمني يتوجَّه إلى العمل الحرفي لتأمين لقمة العيش، أما الجيل الثالث فكان مستواه التعليمي هو المرحلة الثانوية كحد أقصى.

وبالعودة إلى ضيف البرنامج التركي، وبعد المغالطات التي كان يركِّز عليها آملا في التغلب على حجج محاوره الأرمني ليكسب عطف مستمعيه العرب والمسلمين بتكراره بين كل كلمة وأخرى الإسلام والمسلمين فهذا الاسلوب لم يكن ناجحاً، حيث أنَّه لوحظت عليه  مرَّات عدة من قبل المقدِّم أو الضيف الأرمني أو المستمعين المشاركين، بأنَّه يقحم الإسلام والمسلمين دون داع ويتستَّر بهم من دون وجه حق، ولو أنَّني تمنَّيت أن أتدخل، كما غيري الذي نجح في الحصول على الخط وأشارك في الحوار، وأقول له ما بك يا رجل تقحم الإسلام كل لحظة وتتلحَّف به وكأنَّك تحاول تحويل الأنظار وأنت آخر من يجب أن يتكلَّم ويتحجَّج به ؟ ألا تعرف أن صديق عدوي هو عدوي، ألستم من أوائل المعترفين بالدولة الصهيونية عندما كانت ضعيفة وكل اعتراف كان يقوِّي عودها ؟ منحتموها القوة حينها وألستم أنتم من تحالفتم مع عدو الإسلام الأول مغتصب الأقصى الصهيوني ضد العرب والمسلمين ودستم بذلك على كرامتهم ؟ وإذا كنتم حريصين ومتمسِّكين بدينكم الإسلامي فلماذا دولتكم علمانية ؟ ولماذا تخلِّيتم عن مجتمعكم ومحيطكم الإسلامي وتندفعون اندفاعاً مستميتاً إلى الغرب غير المسلم ؟.

هناك كانت نقطة أخرى ضيَّع الضيف التركي نصف وقت البرنامج يردِّدها، وهي عن حرية فتح الأرشيفات العثمانيَّة للباحثين والمهتمِّين بالقضية الأرمنيَّة إبتداءً من سنة 1985، وأن كثيراً من الناس بحثوا فيها، ولم يجدوا ما يدين العثمانيين، وهنا يشعر المستمع بأن الضيف التركي يستخف بعقله بطرحه وتكراره هذا الموضوع، إذ أن الأرمن يعرفون هم وغيرهم بأن الأتراك أذكى من أن يفتحوا أرشيفهم بسهولة، كما لا أعرف لماذا كان الضيف يركِّز على ضرورة إيجاد مستندات تؤكِّد حدوث المجزرة في الأرشيف العثماني فقط ؟ ولماذا لا يتحدَّى الأرمن ويطلب مستندات وبراهين من الدول المجاورة أو الدول التي كان لها وجود في تركيا أو سفراء من الدول الأخرى ؟

الضيف التركي لا يجرؤ على هذا لأنَّه سوف يدان لا محالة، وهل يعتقد بأن النواب الفرنسيين والرئيس الفرنسي يؤكِّدون حدوث المجزرة من دون أن يكون لديهم الأدلة الكافية والمقنعة يجعلهم يتَّخذون قراراً مسؤولاً مثل هذا، وكذلك من دون تأثير هائل على السمعة الدوليَّة لفرنسا والاقتصاد الوطني الفرنسي ؟ وكذلك الحال بالنسبة إلى ايطاليا ولبنان وغيرها من الدول.

نشرت في جريدة «القبس» الكويتية بتاريخ 9-3-2001.

خلال الفترة بين سنتي 2001 و 2008 كثرت أعبائي العملية وتراكمت مسؤولياتي في الشركة التي أديرها، وأنا أيضاً شريك فيها، ومع كثرة المهمَّات والمسؤوليات والضغوط لم أستطع التركيز والكتابة، لكن حدثت أمور لم تحتمل السكوت عليها أو تجاهلها ومنها قبول البرلمان الفرنسي واقعة إبادة الأرمن عام 1915 في جلسته المنعقدة بتاريخ 18 يناير 2001 والضجة التي صاحبت الحدث، كما ان الكثير من الفضائيات تناولت الأمر بالنقاش والتحليل .

وقد ناقشت قناة «الجزيرة» القضية، لكن برنامج  «الاتجاه المعاكس» الذي يقدمه د.فيصل القاسم على شاشتها حفل بكثير من المغالطات التي وردت على لسان الضيف التركي المشارك في البرنامج، والذي حاور ضيفاً آخر أرمنياً، وهذا التركي أزعج العرب الذين شاركوا في النقاش عبر الهاتف أكثر من إزعاج الأرمن أنفسهم، وكان  ذلك دافعاً لي للعودة إلى الكتابة ثانية، فجاءت مقالتي «تساؤلات في المجازر الأرمنية»، ونُشرت في جريدة «القبس» الكويتية في 9 مارس 2001، وحظيت بقبول كبير من القراء في حينه.