«الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية». هذا إذا كان المختلفون أطرافاً متمدنين وحضاريين يفهمون معنى المثل، أما إذا كان العكس فمصير أحد أطرافه من الأرجح أن يكون ثلاث رصاصات في جسده وسقوطه أمام مكان عمله في الشارع العام صريعاً.

Hrant Dink, photo credit Armeni Haber Ajansi

وهذا ما حدث للكاتب الصحافي الأرمني هرانت دينك في استنبول حيث أردي شهيداً لآرائه التي كانت في جوهرها منتهى الاعتدال والحقانية، سقط في بداية الخمسينيات من عمره، فيما كانت عائلته وأقاربه والجالية الأرمنية في تركيا في أمسّ الحاجة إليه.

هرانت دينك مثله مثل الكاتب أورهان باموك – الحائز جائزة نوبل للآداب 2006 – وهما ملاحقان قضائياً بسبب آرائهما، لم يهاجم دينك الدولة أو النظام التركي أو يسيء إليهما بل كان يكتب ويصرِّح في وسائل الإعلام منفتحاً على متغيِّرات العصر مقتنعاً بعدم استطاعة أو فائدة حجب الحقائق طويلاً، ألا وهو فتح ملف تلك الحقبة السوداء من الحكم العثماني والبحث في القضية الأرمنية بعقول منفتحة ترغب في الاستماع ومستعدة نفسياً لاسقاط الشوائب والبقع السوداء الخاصة في تلك المرحلة من التاريخ والانخراط في بناء مجتمع ديموقراطي وبيئة سياسية إقليمية يعيش فيها الجميع بحرية وينعم بالاستقرار والازدهار.

هرانت دينك كان يفخر بجنسيته التركية ويجاهر بها أينما كان، مع فخره أيضاً بأصله الأرمني وجذوره العريقة، فكان شجاعاً (حيث الشجاعة لا تنفع) بطرح معتقداته في مسائل تنفع تركيا في المقام الأول وتسهل دخولها الإتحاد الأوروبي والعالمي.

لا يوجد في اسطنبول ولا في تركيا أشخاص من طوائف الأقليات يملكون حرية يستطيعون بموجبها طرح أفكار ومعتقدات قد لا تتماشى مع عقلية النظام، وإن تساهل معهم النظام فيجب ألا تتعارض تلك الأفكار مع القانون 301 الشديد القسوة على حرية الكلمة في ما يخص التعبير عن حقوق الأقليات. فهناك أسلاك شائكة وأسوار عالية لا يستطيع الكثيرون إيصال أصواتهم عبرها إلى الرأي العام العالمي مطالبين بحقوقهم أو متنفساً لهم حتى لو كانت بسيطة، وهرانت دينك لم يكن منهم لما كان يتمتع به من احترام في أوساط الإعلاميين الأتراك والعالميين بواسطة جريدته «أكوس» ثنائية اللغة (أرمنيَّة – تركيَّة) وكان يستطيع إلى حد ما أن يعكس متطلبات الجالية الأرمنية في تركيا إلى الرأي العام التركي، وفي بعض الأحيان بمقالاته الجريئة كان يتناول القضية الأرمنيَّة في نطاقها العالمي في الإعلام.

سقطت الدولة التركية في امتحان إثبات أصالتها وتأهلها لدخول الإتحاد الأوروبي المتحضِّر، فأياً تكن مبررات السلطات وتصريحات الاستنكار التي سيدلي بها أركان النظام لا تستطيع مسح حقيقة استشراء الحقد والكراهية والتشجيع الرسمي لهما ضد كل من هو غير تركي الأصل في تركيا أو معارض لتوجهاتهم في المجتمع والسياسة. وتأتي في اطار الافتقار إلى وجود مناخ حضاري متصالح مع الذات ومتحلٍّ بالشجاعة الكافية للاعتراف بالمجازر التي اقترفها أسلافهم والتخلي تماماً عن أوهام أن يسقط حق الأرمن في التقادم والاستعداد التلقائي لإعطاء كل ذي حق حقه وذلك من أهم متطلبات عصرنا الحالي والتالي.

«أكوس» الجريدة الأسبوعية التي كان يصدرها المغدور هرانت وتعني خط الحراثة في الحقل وهي كلمة عزيزة على الأرمن لما تحتويه من معان موازية نبيلة تبدأ بالتراب وعطاياه والبذرة وخيراتها والحراثة معنى وقيمة الحياة ذاتها والحصاد حصيلة الجهد والوجود.

سقط هرانت بعدما قدَّم قاتلوه له دون أن يدروا أرفع وسام لإنسان وأسماه، سقط وسط حقله الذي كان يحرثه لحصاد الخير لشعبه ووطنه وأمته ولا شك في أن بذور أفكاره الخيِّرة ستنبت العشرات والمئات لينيروا جسر التواصل والسلام بين الشعبين الجارين التركي والأرمني الذي كان ينشده واستشهد من أجله فأصبح شهيد القلم.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 25-1-2007 

وفي جريدة «القبس» في التاريخ نفسه تحت عنوان «الأرمن ما زالوا الضحية».

كتبتها بمناسبة اغتيال آخر شهداء الأمة الأرمنيَّة هرانت دينك في اسطنبول في 19 يناير 2007، هذا الحدث الشنيع الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط العالمية بما فيها الشارع التركي، حيث كانت جموع كثيرة من الأتراك تجتمع على مدى أيام في مكان اغتياله وتحمل لافتات كتب عليها: «كلنا هرانت دينك، كلنا أرمن».

فعلاً كانت المناسبة فاجعة خسرنا فيها إحدى أهم الشخصيات المناضلة المقيمة في قلب تركيا. فقد كانت له رخصة إصدار جريدة سياسية باللغتين التركية والأرمنية يتصدى بها للافتراءات الصادرة  من الجهات الرسمية ووسائل الاعلام المغرضة لذم الأرمن وقضاياهم، ولم يستطع المتطرِّفون القوميون الأتراك تحمُّله فأردوه قتيلاً أمام مطبعته في اسطنبول.