في الديبلوماسيَّة التركيَّة مع الأرمن

كم تمنيت أن تكون مقالتي في نيسان هذه السنة مختلفة عن سابقاتها التي أواظب على كتابتها منذ سنوات في الصحافة اللبنانية. وكم تمنيت أن تكون رسالتي هذه المرة مفعمة بالتفاؤل والرضا بدلاً من التذمر والشكوى. إذ إنَّ هذه الأمنية طبيعية لكل إنسان حر يعيش حياة خالية من مشاعر الغبن والظلم. فلا تكون في أعماق نفسه دوافع مؤججة بسبب ضياع حقه واهدار كرامته الوطنية، ولا يملأ القهر والأسى قلبه لما تعرض له أجداده من ظلم شمل سلب أكثر من نصف مساحة أراضي وطنه وفقدان إرثه المادي والمعنوي ومعالم حضارته الراقية الممتدة لثلاثة آلاف سنة على تلك الأرض منذ أيام الامبراطوريات والقياصرة والشهنشهات في الأزمان الغابرة.

  في 10 أكتوبر 2009 الفائت وقَّع وزير خارجية أرمينيا اتفاق تفاهم ومصالحة وبدء العلاقات الديبلوماسيَّة بين أرمينيا وتركيا في حضور وزراء خارجية الدول الكبرى الراعية للاتفاق في زوريخ – سويسرا، الذين وصفوا الاتفاق بأنه صفحة جديدة في العلاقات الثنائية. وقد شمل الاتفاق شرط فتح الحدود المغلقة من طرف تركيا خلال أسابيع من تاريخ التوقيع. وعندئذ غمرني إحساس مستجد، إحساس الشخص الذي بعد الكثير من المجادلات والصراعات في قضية قانونية ومصيرية له توصل أخيراً إلى نتيجة قيل عنها بأنها بداية بناء عهد يتسم بتعزيز التصالح والتقارب مع الخصم بعد عداوة وخصام استمرا قروناً. فأصبح تواقاً إلى الإزدهار والتقدم لشعبه ووطنه آملاً في بعض التعويض عمَّا فاته نتيجة ظروف وعوامل قاهرة وجائرة معروفة.

لم يكن الاتفاق في مجمله يرضي متطلبات الشعب الأرمني ولاسيما الجاليات المبعثرة في المهجر حول العالم. إذ لم يذكر إعادة أي من الحقوق المادية والمعنوية للأرمن والتعويض عنها، كما لم يرتبط بأي وعود عن مساهمات ومساعدات دولية متعلقة بالاتفاق، بل كان ببساطة بروتوكول اتفاق لبدء علاقات حسن الجوار مثل أي بلدين جارين، ومن ثم تشكيل لجان متفرِّعة متخصِّصة للبحث في المشاكل المعلَّقة وحلها بين الدولتين بالطرق الرسمية المتعارف عليها. لم يكن هناك أي سبب مجد للتفاؤل بالاتفاق إلا التفاؤل نفسه «تفاءلوا بالخير تجدوه».

تفاءلت بالخير وانطلق ذهني إلى المستقبل. بنيت في خيالي كمَّاً هائلاً من الانجازات العظيمة خلال المرحلة المقبلة كما حلمت بأرمينيا المتطورة اقتصادياً وصناعياً وسياحياً نتيجة رفع الحصار التركي عن حدودها الغربية وهي الحدود الأهم بين جميع منافذ أرمينيا الأخرى، إذ إنَّ بقية المنافذ جبلية وعرة لا تؤدي إلى شبكة مواصلات دولية سواء من القطارات أو الموانئ، واستمررت في تخيلاتي فوجدت المصانع والمعامل قد عاودت انتاجها كالمعتاد بعد أن شلَّت زهاء عقدين وتلفت بسبب منع تزويدها الوقود والمواد الخام اللازمة. كما تخيلت انطلاقة عمرانية في كل أنحاء أرمينيا متوقعاً رؤية ما لا يقل عن 200 رافعة برجية وورشة عمل عملاقة تعمل على مدار الساعة بدلاً من أقل من 20 ورشة تعمل حالياً.

كما تخيلت الاستثمارات تتدفق على دولة أرمينيا الواعدة بالمليارات وزيادة عدد السياح الزائرين لمعالمها الأثرية وطبيعتها الخلابة.

لست من الحالمين العاطفيين الذين يبنون قصوراً في الهواء، بل أنا من هواة الأفكار الواقعية والموضوعية، ولكنَّني أعلم أنَّني أطلقت العنان لمخيلتي لتأخذني إلى تلك الأحلام تعلقاً ببصيص نور هذا الاتفاق ليس إلاَّ. فكان لا بد بعد التسامي فوق الأسى والألم المترسخين في النفوس منذ قرون، وبعد كل التنازلات في الاتفاق المذكور في سبيل التوصل إلى ذلك الواقع الافتراضي أعني واقع الإنفراج الاقتصادي والاجتماعي معاً وهذا المطلب هو من أضعف الايمان ، وإلا ما هو النفع من الاتفاق أصلاً ؟

ولكن يا حسرتي لننظر معاً إلى ما حصل ! لننظر معاً إلى ما انتهت إليه توقعاتي وأحلام ملايين الأرمن، وكأن الأتراك قرأوا أفكاري وحلُّوا شيفرة أحلامي وأرادوا تحطيمها. كما إني استحقيت شماتة من كانوا يعارضون تفاؤلي.

ربما استعلاءً منهم واستغلالاً لوضعهم كلاعب اقليمي محوري في الشرق الأوسط في المرحلة الحالية أو لسبب نجهله أمتنعت الحكومة التركية عن المضي قدماً في تنفيذ الاتفاق باختلاق أسباب واهية. وبدأت تتلكأ في إقراره وأصبحنا كل يوم نسمع تصريحات الزعماء الأتراك الذين يتحدثون عن شروط جديدة ومتطلبات خارجة عن نطاق الاتفاق محاولين عرقلة التقدم (النسبي) الذي أحرز في زوريخ.

وعلى رغم معرفة الأتراك بحساسية وصعوبة موضوع الحدود الأرمنية التركية المتنازع عليها طرحوا الموضوع مجدداً، وطلبوا بعد توقيع الاتفاق أن يعترف الطرف الأرمني بهذه الحدود سلفاً كشرط لتنفيذ الاتفاق، وأثاروا هذا الشرط على رغم علمهم بوجود عشرات الدول في العالم ذات خلافات ونزاعات حدودية بين بعضها البعض ومع ذلك بنت أشد العلاقات الديبلوماسية أو الشعبية وثوقاً، ولم تمنعها الخلافات الحدودية من المضي قدماً بعلاقاتها الطبيعية، بل دخلت في تحالفات وتجمعات اقليمية ودولية على أعلى المستويات والأمثلة على ذلك كثيرة بين أكبر الدول بعضها مع بعض وبين دول أخرى في الشرق الأوسط، وكذلك في الخليج وفي القارات الخمس.

كما أنهم أعادوا طرح موضوع تخلي الدولة الأرمنية وتنازلها مسبقاً عن مطلبها في أن يعترف الأتراك بالمجازر التي ارتكبوها في حق مليون ونصف مليون أرمني وتهجير أعداد مثلهم خلال الحرب العالمية الأولى، علماً أن هناك أيضاً أمثلة عديدة مشابهة في عالمنا اليوم حيث تظل هذه المطالب والخلافات قائمة على الرغم من استمرار العلاقات الطبيعية بين البلدين، وهناك الكثير من الدول ذات الذاكرة الدموية المشتركة، ولكن لها حالياً علاقات ديبلوماسية عادية.

كما أن الأتراك لم يكتفوا باضافة شروطهم التعجيزية لتنفيذ الاتفاق، بل أضافوا شرطاً آخر يخص أبناء عمومتهم هذه المرة وهي أذربيجان. حيث جاء في تصريحات وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن الحدود لن تفتح والعلاقات لن تستأنف مع الأرمن قبل الحصول على تنازلات لمصلحة أذربيجان والتخلي عن أراضي منطقة ناغورني غاراباغ أرض الأرمن وأجدادهم منذ ثلاثة آلاف سنة وأكثر. وهو نزاع بين أرمينيا وأذربيجان وليس لتركيا أي علاقة مباشرة به من الناحية القانونية والأعراف الدولية، وهي أصلاً ليست طرفاً فيه، بل تمثل دور البنت المشاكسة التي إذا صح لها أن تأخذ، قالت: «إني آخذ واحدة لي وواحدة لبنت عمي».

وفي الختام لم يتسنَ لي كتابة مقالتي هذه بلهجة التفاؤل التي كنت قد تمنيتها، ولا بنكهة ذات طعم الرقي والحضارة والتي تفوح منها رائحة التسامح العصري المتمدن المؤدي إلى السلام المشترك، بدلاً من الأحقاد والنزاعات العقيمة.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 22-4-2010 

     وجريدة «القبس» بتاريخ  24-4-2010

    وجريدة «الحياة» بتاريخ 24-4-2010

   وجريدة «أزتاك» الأرمنيَّة بتاريخ 27- 4-2010

هذه المقالة نشرتها بعدما كنت قد سلَّمت بقية أعمالي إلى المحرر وكان العمل يجري في التجهيز النهائي استعداداً لطباعة هذا الكتاب، والمناسبة كانت الذكرى الـ 95 للإبادة الأرمنيَّة، لكنَّني تناولت فيها موضوع تلكؤ النظام التركي في تنفيذ الإتفاقيات التي تمَّ توقيعها في زوريخ بين وزيري خارجية أرمينيا وتركيا برعاية وحضور وزراء خارجية الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وروسيا الإتحادية وفرنسا وشبَّهت فيها الدولة التركية بالبنت المشاكسة التي إذا أتيح لها أن تأخذ قالت: «هذه لي وتلك لبنت عمي». لقد نُشرت هذه المقالة في الصحف العربية وكذلك تُرجمت ونُشرت في أهم الصحف الأرمنيَّة في بيروت وحلب وغيرهما.