«ولا تقتلوا النفس  التي حرم الله إلا بالحق»

صدق الله العظيم

أيام قليلة وتحل الذكرى التسعون الحزينة للمذابح الشهيرة التي تعرَّض لها الأرمن في خضم الحرب العالمية الأولى وبالتحديد في 24 أبريل سنة 1915 على يد الأتراك العثمانيين.

تسعون عاماً أليمة مرت على ذلك اليوم المفجع الذي بدأ بأوامر من بعض الحكام الظالمين باعتقال كبار الشخصيات الأرمنية المقيمة في أنحاء الامبراطورية العثمانية استعداداً للقضاء عليهم والبدء بالإجهاز على الشعب الأرمني نفسه الذي كان محتلاً من قبل العثمانيين منذ أكثر من 600 عام.

Photo credit Armenia Discovery

قصص وأحداث فظيعة تحكى عن أساليب تصفية أولئك الزعماء والمفكِّرين القادة ومنهم أعضاء في البرلمان ومحامون وأدباء وشخصيات فذة لعبت دوراً مشهوداً لصالح الدولة التركية في المنابر الدولية لعقود عديدة، وكيف أنَّهم قتلوا جميعاً بأساليب وحشية تقشعر لها الأبدان، منهم من قتل بالفأس وانشطر رأسه، ومنهم من جنَّ من الفزع عند مداهمة مكتبه وهو يؤلِّف الألحان على آلة البيانو.

أما الشعب الأرمني وبكل فئاته وجموعه فقد تعرَّض لأول إبادة جماعية في القرن العشرين، حيث تم هجر أبناؤه عنوةً من جميع المدن والبلدان التي كانوا يعيشون فيها على امتداد أرض أرمينيا الواقعة في تلك الفترة تحت حكم الامبراطورية العثمانية في شرق الأناضول، وكذلك هؤلاء الذين كانوا يقيمون في مدن وبلدات الدولة وخاصة استنبول، حيث كانت جالية أرمنية كبيرة مقيمة في تلك المدينة وضواحيها… إن كل هؤلاء أجبروا على إخلاء بيوتهم بشكل منظم وخبيث وتحت ذرائع عديدة مبطنة انطلت على المجتمع الأوروبي الذي كان قد أثار حقوق الأقليات في الأراضي العثمانية في حينه تحت ذريعة وخدعة وجوب نقلهم (أي الأرمن) من مناطق التوتر في شرق الامبراطورية مع قوات الروس في تلك الفترة إلى مناطق آمنة، وانهم هكذا استطاعوا وبامتياز تحقيق غاياتهم التوسعية الطورانية بتشتيت الشعب الذي كان يشكل الأغلبية في تلك المنطقة الحدودية الحساسة وتوطين الأتراك بدلاً منهم واحتلال مواقع استراتيجية إضافية مثل هضبة جبل آرارات الاستراتيجي الذي حطت عليه سفينة النبي نوح عليه السلام، والمعروف منذ الأزل بأنه جبل أرمني ومذكور في جميع كتب الجغرافيا ومراجع التاريخ.

في هذه المساحة المحدودة لا أرغب في سرد أحداث تاريخية أصبحت معروفة بفضل الله للجميع ومعترفاً بها في كثير من الدول العظمى مثل فرنسا وايطاليا وكندا وغيرها من كبرى الدول الأوروبيَّة والأميركيَّة ودول صغيرة (لكنها كبيرة وعظيمة في نظرنا) مثل لبنان وأروغواي وعشرات من الدول حول العالم، بل أرغب في التركيز على الظاهرة المؤسفة لعناد الدولة التركية الحديثة بإنكار تلك الواقعة في المحافل الدولية والصدام مع المجتمع الأوروبي في تلك المسألة، وعدم إقرار حق الأرمن في التعويضين المعنوي والمادي، وطي صفحة مسألة القضية الأرمنية إلى الأبد والتطلع إلى علاقة جديدة قائمة على التعاون المثمر بين الشعبين التركي والأرمني اللذين تربطهما علاقة جوار لأكثر من 800 عام.

إن الحكومة التركية الحالية تنكر بدون وجه حق حدوث المجزرة ولا ترغب في التصالح مع ماضيها، بل على العكس من ذلك لجأت إلى حملة مضادة ضد الأرمن بقلب الحقائق وترويج فكرة أن الأرمن هم من اعتدوا وقتلوا الأتراك في تلك الفترة وأخذوا يلقون المحاضرات على المستوى الرسمي في المحافل الدولية دون مراعاة أدبيات النزاهة، ونشروا صوراً لمقابر جماعية زعموا أنها من صنع الأرمن لتشويه الحقائق وخلط الأوراق. كيف سيصدق من يسمع أن شعباً محتلاً ومضطهداً لقرون عديدة وأعزل ومغلوباً على أمره، مثله مثل بقية الدول الواقعة تحت حكم العثمانيين آنذاك، يستطيع التطاول على أبناء الامبراطورية الجبارة التي تناطح القياصرة في الشرق وملوك أوروبا في الغرب، وأن تلك الدولة بعظمتها لا تستطيع حماية مواطنيها من الأرمن العزل ! يا لها من محاولة فاشلة لخداع أحرار العالم العارفين للحقيقة منذ قرن من الزمن، وأولهم الشعوب العربية وكذلك الأوروبيون.

إن لسان حال أحفاد الأرمن اليوم المشبَّعين بثقافة الأخوَّة والسلام يقول إنَّهم مستعدون للتصالح، إذا ردَّت السلطات التركية حقوقهم المعنوية والمادية واعترفت بالمجازر التي أوقعها أسلافهم على الأرمن وأبدت الرغبة النبيلة في التحاور مع الدولة الأرمنية والعودة إلى فضيلة الحق. وإني أرى أن مبادرة شجاعة مثل هذه من قِبل الدولة التركية، وفي هذا الوقت والظروف بالذات، ستكون خطوة واقعية حكيمة شديدة التأثير إيجابياً وفارقة على مستقبل تركيا على المستوى الأوروبي بشكل خاص، ولا أظن أن المجتمع الأوروبي سوف يقبل بضم تركيا إلى نادي أوروبا قبل أن توفر تركيا قدراً كافياً من الوعي والنضج الحضاري إلى جانب أمور أخرى، منها أهمية الإعتراف بالخطأ كما فعل أحد أعضاء النادي المؤسسين وهي ألمانيا (وأذكرها هنا كمثل قريب) حيث أنها اعترفت اعترافاً صريحاً بالإبادة التي لحقت باليهود .

نشرت     في جريدة «القبس» بتاريخ 26-3-2005

            و في جريدة «النهار» بتاريخ 16-4-2005 

 وفي جريدة «كويت تايمز» باللغة الانكليزية بتاريخ 31-3-2005 تحت عنوان «أنقرة يجب أن تعترف بمجازر الأرمن»

“Ankara should admit to Armenian massacres” 

كتبتُ هذه المقالة عام 2005 بمناسبة الذكرى التسعين للمجازر الأرمنية، وهي  ضمن سلسلة  مقالات نمطية أكتبها سنوياً  لسرد وتأكيد الوقائع والأحداث التي جرت في نهاية الحرب العالمية الأولى. وكان التركيز فيها على تعنت السلطات التركيَّة واستكبارها  وعدم الاعتراف بالذنب، بل على العكس اتباعهم سياسة الهجوم المضاد بحيث ينشرون في وسائل الإعلام المتاحة لهم أضاليل مفادها أن الأرمن هم الذين اعتدوا على الأتراك وقتلوهم وليس العكس.