على نغم مدح العلاقات الكويتية-الآذيرية والتركيز على وتر مساندة الكويت للقضايا الآذيرية والعلاقات الجيدة بين البلدين، خرج سفير أذربيجان بالكويت سعادة شاهين عبد لايف بتعابير ومصطلحات مستحدثة في الخطابات السياسية والديبلوماسية في مواضيع مختلف عليها بين الدول، ونعت سعادته الشعب الأرمني بالوجه القبيح والإرهابي الشرس ومدبِّر المذابح إلى آخره من الصفات الذميمة والمهينة، وذلك في تصريح أدلى به في مقر السفارة لجموع من الصحافيين ونشر في أكثر من جريدة كويتية قبل أيام، وذلك بمناسبة ذكرى ما سمَّاه مجزرة خوجالي.

 لا شك في أن الذي لا يعلم خلفية موضوع نزاع (إقليم ناغورني غاراباغ – باللغة الروسية – إقليم أرتساخ باللغة الأرمنيَّة) وليس ملماً بتفاصيل المعارك التي جرت في قرية خوجالي يوم 25-27/2/1992 سوف يعطف ويشفق على سكان القرية (وهم يستحقونها بلا شك) وبطبيعة الحال يحقد على الأرمن ويكرههم (وهذا هو المقصود أصلاً) ويتصور في خياله ذلك الوحش الكاسر والمجرم السفاح إلخ، ويستبدل أو يزيل من ذهنه الفكرة السائدة عن الأرمن بأنهم شعب مسالم تعرض هو نفسه للظلم على مر العصور وعانى مآسي القهر والتشرد وآخرها المجازر على أيدي السلاطين العثمانيين التي راح ضحيتها 1,5 مليون أرمني بريء، ومثلهم تبعثر في أصقاع الأراضي القريبة والبعيدة عن وطنهم، وهذا حدث تاريخي معروف للجميع، وكذلك محاولة زعزعة آراء القراء المعروفة عن الأرمن بحسن أخلاقهم وجودة أدائهم أينما حلوا وارتحلوا، والمعاملة والإحترام والتقدير العالي التي تتمتع بها جميع الجاليات الأرمنية المنتشرة في البلدان العربية وخصوصاً في الشرق الأوسط.

أما نزاع غاراباغ فالمختصر أنه في أثناء بدايات تشكيل الإتحاد السوفييتي،وتحديداً فترة حكم الديكتاتور ستالين بين 1929 و1953 قام زوج أمي (استخدم هذا التعبير مجازاً) حيث أن سكرتير الحزب الشيوعي كان هو كبير العائلة والجمهوريات الخمس عشرة ومنها أرمينيا وأذربيجان وأوكرانيا وكازاخستان وغيرها تشكل مجتمعاً واحداً يسمى الإتحاد السوفييتي ومصالح جميع الجمهوريات منصهرة في بوتقة الكرملين. لا قرارات فردية ولا تملك شخصي على مستوى الجمهوريات وليس لأحد أي سلطة أو إرادة ما عدا إدارات محلية تطبق التوجيهات والقرارات الآتية من موسكو، والسكرتير الأول للحزب هو والد الجميع وأرض السوفييت محللة لجميع أفراد الشعب السوفييتي لا فرق ولا تمييز بين بلدة في أقصى الشرق على بحر اليابان وبلدة في ليتوانيا في أقصى الغرب، ولا فرق بين مقاطعة في أقصى الشمال في سيبيريا أو مقاطعة في جمهورية أرمينيا في أقصى الجنوب، وحيث أنه كان معلناً ومعلوماً لديهم أن المصالح مشتركة وكذلك المصير، إذ لا فرق بين «أرمني وآذيري» إلا بالولاء لمجلس السوفييت الأعلى. أقدم ستالين على ربط منطقة ناغورني غاراباغ مسكن أشقائي التي كانت تتمتع بحكم ذاتي غير خاضع لأذربيجان ولا لأرمينيا بشكل أصيل، بل كانت أقرب إلى أرمينيا بسبب صلة الرحم والعقيدة والعرق، أقدم الديكتاتور على إخضاعه لجمهورية أذربيجان بذرائع تافهة منها أن عاصمتها ستيباناكيرت أقرب بكثير إلى باكو من يريفان عاصمة أرمينيا، وأسهل لقاطني المقاطعة متابعة أمورهم الإدارية والشؤون الاقتصادية والمعيشية اليومية من باكو، برغم أنه اتضح في ما بعد أن النية المبطنة لهذا الترتيب كانت اتفاقات جانبية متعلقة بنفط باكو مع الانكليز والأتراك في الاقليم (وكذلك سلب اقليم ناخيتشيفان وضمه إلى أذربيجان برغم اتصاله بأرمينيا من الجهة الأخرى لأذربيجان وعدم وجود صلة جوار جغرافي بينهما).

 وعند قرب انهيار الإتحاد السوفييتي أيام الرئيس غورباتشوف وانعدام وجود داع لرباط وحدة المصيرالمشترك وبدء أصوات رغبة الانفكاك تعلو في كثير من الجمهوريات مثل لاتفيا وليتوانيا، قام سكان اقليم غاراباغ بإعلان استقلالهم وانفكاكهم من قيود السوفييت والافلات من براثن وتبعيات القرار الجائر والعودة إلى وضعهم الأول الحكم الذاتي او الانضمام إلى أرمينيا. هذه باختصار هي تراجيديا منطقة النزاع المسمى ناغورني غاراباغ وهي من مخلفات اسراف زوج أمي ستالين.

أما في ما يخص أحداث قرية خوجالي التي تطل على مرتفع استراتيجي في المنطقة، فكان هدفاً مشروعاً للمقاتلين الغاراباغيين، لأنه كان مصدر الدك المدفعي والصاروخي الكثيف الذي كانت تتعرض له بقية القرى في السفوح، وانه بحسب مصادر موثوق بها محايدة وكذلك آذيرية تؤكد أن معظم القتلى كانوا من نيران آذيرية نفسها من خلف الموقع الذي منعت من إخلائه وهددت المنسحبين بالتصفية رغم وجود ممر آمن كان من الممكن إخلاء المدنيين خلاله.

وبالعودة إلى تصريحات سعادة السفير نحن نتساءل: إذا كان وجه الأرمن قبيحاً لهذا السبب وهي محصلة طبيعية متوقعة لظروف الحرب بين طرفين وجهاً لوجه وبشكل معلن، فبماذا يوصف وجه الذين قاموا قبل أربع سنوات من الحرب بإبادة مئات الأشخاص المدنيين في منطقة سومكايت الصناعية في شمال العاصمة «باكو» عاصمة أذربيجان بتاريخ 28-2-1988 عن بكرة أبيهم بالقائهم من شرفات العمارات التي كانوا يقطنونها ؟، وإنهم خلال أيام وبعد وضع إشارات على أبواب السكان الأرمن دهمتها العصابات المسلحة ومحت أهلها من الوجود بأبشع الوسائل اللاإنسانية سواء أكانوا شيوخاً أم نساءً أم أطفالاً دون تمييز على عكس السلطات الأرمنيَّة التي وفَّرت للسكان الآذيريين المدنيين انسحاباً آمناً دون إراقة دماء، وهم الفئة (ومثلهم الأرمن على الطرف الآخر) التي تتجمع اليوم في المناطق المتاخمة لحدود منطقة النزاع تنتظرون حل القضية والعودة إلى منازلها التي غادرها منذ ستة عشر عاماً، وهي تعرف أن الذي يعرقل إيجاد حل للمشكلة هو الطرف الآذيري لأسباب أكثرها محض داخلية والبقية بسبب تدخلات خارجية ومرة أخرى النفط وأنابيبه دورهما كبير فيها.

وبمناسبة إعلان كوسوفو نفسها دولة مستقلة في محيطها الصربي واعتراف كثير من الدول الكبرى باستقلالها، تجدر الإشارة هنا إلى أن النموذج وحيثياته يشبه كثيراً استقلال غاراباغ. أولها حق تقرير المصير والاستقلال عن محيط غير منسجم دينياً وعقائدياً ووجدانياً رغم وجود كوسوفو على هذه الحالة منذ بضع مئات من السنين فقط لا غير.

أما في موضوع غاراباغ، فهذه المبررات موجودة بحذافيرها وأكثر بكثير، حيث إن له ميزة إضافية أصيلة وهي انه عبر تاريخه الطويل منذ قياصرة الروس اوتشكيل أذربيجان الحالية بألف سنة، لم يكن تحت السيطرة المباشرة لأحد ولا بأي جزء منها (ما عدا السبعون سنة السوفييتية المصطنعة الأخيرة). كما أنه هناك هاجس ورعب العودة تحت الإدارة الآذيرية مرة أخرى بعد المعاناة والقهر المريرين ومحاولات محو الهوية التي تعرضوا لها في الفترة السابقة، وهذا ما يعطي حق إضافي لأرمن غاراباخ برفض دعوات أذربيجان بضم الإقليم إليها مجدداً حيث أن مثل هذا القرار يرتقي إلى مستوى الخيار بين الحياة أو الموت وهو بمثابة انتحار غبي غير مقبول إنسانياً،وليعذر العالم الأرمن لعدم استطاعتهم الإقدام عليه.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 3-3-2008.

كتبت هذه المقالة بمناسبة المؤتمر الصحافي الذي دعا إليه السفير الآذيري الصحافيين الكويتيين بمناسبة ما سمَّاه بمذابح خوجالي واتَّهم الأرمن بارتكابها ووصفهم بأبشع الصفات أقلها كان ما سمَّاه «الوجه القبيح للأرمن».

وكنت قد قرأت التصريحات التي استرسل فيها السفير الآذيري ووقفت على المغالطات والاتهامات التي أطلقها يومها، وما كان مني إلَّا أن أردّ عليه في تلك المقالة التي سمَّيتها «زوج أمي ستالين» والذي كان هو السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفييتي في عشرينيات القرن الماضي والحاكم المطلق والآمر الناهي للإتحاد السوفييتي، وسبب تشبيهي شخصية ستالين بزوج أمي هو الإنطباع  المعروف والمؤكد عن تصرفات زوج الأم مع أولاد زوجته والذي لا يمكن أن يصل إلى مرتبة تعاطف الأب الحقيقي الذي يحن على جميع أولاده بالتساوي ولا يبخس حق أحدهم، بعكس ما فعل ستالين معنا نحن الأرمن حيث انتزع أحد اخواتنا من بيتنا وألحقه ببيت إحدى زوجاته الأخريات وهي أذربيجان.  وهذا التصرف أثار لنا كل هذه المآسي عند سقوط الإتحاد السوفييتي وانهياره ولازال.