تكثر هذه الأيام في كثير من المنابر والمناسبات وعلى كافة المستويات تصريحات ومقالات عن رفض أصحابها ما أصبح شائعاً عن مقولة التغييرات المفروضة من الغير، والمقصود هنا الإصلاحات المطلوبة من الأميركان وغيرها من الدول العظمى على المناهج الدراسيَّة أو نظم الحكم أو حقوق المجتمع المدني وحقوق الإنسان السائدة الآن في دول العالم الثالث، بما فيها الدول الإسلامية والعربية على وجه الخصوص.

الكل يرفض التغييرات القادمة من الخارج، أو حسبما يقولون المفروضة من الغير، حتى قبل معرفة ماهيتها، البعض يتحسس منها من منظور الكرامة القومية، وبعضهم من المنطلق الديني، وهنالك من يرفض الفكرة لمجرد أنها مفروضة من الخارج.

أنا أتفهَّم وأقدِّر وجهة نظرهم وأسباب رفض الرافضين من الناحية النظرية العاطفية، ولكن ليعذروني لأنني لا أوافقهم الرأي من الناحية العمليَّة والواقعيَّة، حيث إنَّني أرى الرفض غير ذي جدوى وفائدة، بل مضر، وأرى أن الغاية تبرر الوسيلة.

فإذا أردت مثلاً رفض قيم إحدى الدول أو أخلاقياتها، يجب ألا ترسل أولادك إلى جامعاتها للتحصيل العلمي، وتفتخر أمام أصحابك بأن ابنك خريج لندن أو كارولينا الشمالية، بل يجب أن تنشىء جامعات وطنية متاحة للجميع تفوق في مستوى أدائها الجامعات الغربية، وهكذا يا دار ما دخلك شر. أما إذا أردت الاستقلال بالقرار أكثر فأنت مضطر لإنتاج مضخات مياه الآبار الجوفية بنفسك لري مزروعاتك لإرواء شعوب بلدانك التي تتكاثر بمعدلات لا تستطيع الحكومات نفسها التحكم بها، ويزداد الفقر والتخلف يوماً بعد يوم. أما إذا أردت التمتع بقمة عنفوانك وإرضاء كبريائك الشخصي، فما عليك إلاَّ أن ترفض استيراد أي من الأدوية أو المعدات الطبية اللازمة للعناية بصحة شعبك وأمراضه من الخارج، أو بالأحرى طلب المساعدات.

لا أريد الاسترسال، فهنالك عدة آلاف من الأمثلة المشابهة التي تثبت أنَّنا نستهلك معرفة  الغير ومنتوجاته من أعقدها إلى أبسطها من قديم الزمان، وأنَّنا بعيدون كل البعد عن امكانية توفير حاجاتنا الأساسيَّة بأنفسنا، فما بالك بتوفير مقوِّمات التطور والتفوق ؟

إننا وفي غياب قدرتنا وإمكاناتنا عن توفير الغالبية العظمى من متطلبات الحياة المادية والمعنوية الضرورية لشعوبنا ومتطلبات الدفاع اللازمة عما نملكه، وكذلك في غياب الوعي الكامل وافتقاد الممارسة اليومية لمعنى المثل القائل «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» واضعون نصب أعيننا حتمية تحولنا كلنا إلى كتلة صلبة صلابة الماس تتكسر عليها كل السيوف، بما فيها سيف الوقت، فإننا لن نستطيع رفض معظم المتطلبات القادمة إلينا من الأقوى. إن الضعفاء كانوا ما زالوا تحت سطوة الأقوياء ولا يستطيعون رفض إملاءات الأقوياء، إلاَّ على قدر نقاط ضعفهم فقط، أما إذا أردنا المقارعة والتعامل نداً لند فما علينا إلا أن نقوى ونتخلَّى عن أوجه الضعف فينا. كلام سهل القول والتسطير، ولكن هل يمكن فعلياً أن نصعد إلى هذه الدرجة في منحني مؤشر التطور والالتقاء في الأعلى مع الدول القوية وبقوتنا الذاتية وبمبادراتنا المستقلة لمقارعتهم في المدى المنظور ؟ هل لدينا سوابق استطعنا فيها كسر قيود التسلط المفروضة علينا بمحض قدراتنا وبمفردنا ؟ إذا كانت الأمثلة موجودة هل هي صالحة لوقتنا الحاضر ؟ وهل تؤخذ منها العبر لصياغة نظام وخطة عمل يقبلها الجميع وتنطلق بنا إلى الأمام ؟ سؤال أطرحه على جميع الرافضين للتغيرات المقترحة من الغير. إذا كان جوابهم بـ«نعم» فهيا بنا إذاً نسمع أو نقرأ نظرياتكم وخططكم المستقبلية المقنعة والواقعية المتمشية مع فرضيات العصر الذي نحن فيه، هيا لنراكم تعملون قولاً وفعلاً، وبالتفاني والاخلاص، كل منكم في موقعه لصالح مجتمعاتكم. هيا لنراكم تتخلون عن امتيازاتكم ومصالحكم الشخصية واحدة تلو الأخرى في سبيل خدمة بلدانكم. ها نحن في انتظار أن نراكم خلف مكاتبكم ومختبراتكم ليل نهار تكشفون عن أعظم الاكتشافات العلمية لوضع أصلح النظريات الإدارية للتنمية البشرية في خدمة مواطنيكم كي تنتشلهم من فقرهم ويأسهم وتضعهم في مصاف الشعوب المزدهرة والمتحررة القادرة على قول الكلمة التي تقول إنك تريده لنفسك ولهم، وهو قول «لا».  ومرة أخرى أسأل إذا كان جوابك بنعم إبدأ العمل الآن، ولا تؤجله إلى الغد، لأن الغد هو أصل المشكلة من فرط عشقنا له وارتياحنا للمستنسخ منه كل شروق شمس. وإذا كانت ظروفك لا تسمح لك الآن، والأرجح أنها لن تسمح لأنك لم تستعد لها البارحة أصلاً، فلا ضير إذاً، وهذا بيت القصيد أن تأخذ النصيحة من الغير، وتستفيد منها بدل أن ترفضها لمجرد الرفض وتتخلَّف عن ركب التمدن والحضارة التي أضرارها أكثر بكثير من قبولنا لها.

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 14-3-2004 

وفي جريدة «النهار» بتاريخ 29 -3-2004 تحت عنوان «اصلاحات الأميركيين

 بين الرفض والقبول».

هذه المقالة تفسر نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى تعليق، وقد نشرت في زمن سياسي كانت الضغوط على أشدها على بعض المناهج الدراسية في دول العالم الثالث وما يحز في نفسي أنه منذ تاريخ كتابتها عام 2004 وحتى اليوم لم أجد التغيير والتطور المطلوبين من شعوب العالم الثالث عموماً ومن الشعوب العربية خصوصاً، ولم تتغير الأحوال الاقتصادية وظروف التنمية البشرية بالقدر المنشود، فالشعوب الفقيرة تزداد فقراً والجوع والأمراض يفتكان بها، أما في عالمنا العربي فالوضع المتردي على حاله، لأن قراءة سريعة لتقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في الدول العربية والأرقام المخيفة التي نقرأها عن مستوى دخل الفرد ونسبة الأمية وحقوق الإنسان وارتفاع نسبة الوفيَّات ترتفع لدينا عاماً بعد عام وفي المقابل نسبة طباعة الكتب وقرائتها عندنا هي الأضعف في العالم.

وعلى العكس من ذلك كان هناك خبر سعيد هو إنشاء جامعة عبد الله للعلوم والتكنولوجيا وهي جامعة سعودية مختلطة للنساء والرجال، وفي المقابل هناك أخبار عن وجود تيارات في المنطقة تعمل على فصل الجنسين في الدراسة اعتباراً من المراحل الابتدائية، وهنا يبرز تساؤل « كيف نتقدم إذا لم نسايرالحداثة والعولمة ؟».