لست متسرعاً في إلقاء الأحكام على مستقبل أي دولة عربية تهب عليها رياح التغيير، أو تلك التي تواجه قلاقل وثورات شعبية، كما لا أستبق الأحداث بالإجهار برأيي حول الانتفاضات ونتاجها المستقبلي المتوقع  لغالبية الدول العربية بوجه عام.

  توقعت ما يحصل، وهو ليس نتيجة وحي جاء بل قراءة مواظبة عن البيئة التي أعيش فيها، وفقاً لمعطيات منطقية بسيطة، تؤكد أنه لا يمكن استمرار عزلة الملايين من العرب، وانكفائهم عن الواقع الدولي، بينما يتمتعون بكمية هائلة من ثروات متنوعة، في مواقع استراتيجية مميزة، على إمتداد أراض شاسعة خصبة معطاء، ثرية، ونسبة تعداد عالية من الشباب، والأهم من هذا وذاك تاريخ حضاري مجيد، فتراكمت رغبة جامعة، جامحة، مكبوتة، بتغيير الواقع، لدى جميع الطبقات، يحركها طموح بالتطور والازدهار ومسايرة ركب الحضارة، مثل سواهم من دول كثيرة، قريبة منهم جغرافياً أو اجتماعياً.

لم أصادف مواطناً عربياً أو صديقاً لم يشتكِ من الوضع في بلاده أو أحواله المعيشية المتردية، وامتعاضه من حالة التخلف الحالية، والسخرية منها بمرارة، وبدا لي أن عدم الرضا هو أول خطوة في طريق التطور، والذي تصاعد بالخروج في المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بالتغيير، لدرجة أن الناس لم يحفلوا بالقمع المنظم، الذي وصل إلى استخدام العصي والرصاص الحي، وهي إشارة واضحة إلى أن الشعوب لم تعد تحتمل، وتفضل الموت على واقعها الراهن. 

وهكذا حصل ما حصل، وإن متأخراً، لكنه جاء محصلة لواقع لا يرحم، يعبِّر عنه رئيس طاغية، جاء إلى السلطة بإنقلاب عسكري، متذرعاً بأن سابقه كان متمسكاً بالحكم منذ عقود أيضاً، وبعد أن استولى على العرش (أي الكرسي) تمسك به أكثر من سابقه بمراحل، ولم يكتفِ بالاستيلاء على السلطة وحسب، وفي دورات رئاسية متعاقبة تبدو أبدية، بل صادر إيرادات البلد الاقتصادية لعائلته وذويه، وصار ينهب ويكنز الذهب والمجوهرات والأموال خارج بلده، معطلاً كل إمكانات شعبه المادية والمعنوية. فكيف لا تحصل الثورات إذا كان رئيس آخر يتعاطى مع بلاده كأنها عزبة خاصة ؟ وأيضاً يتقاسم مع حاشيته ثروة البلاد والعباد، بينما التقارير الدولية تضع اقتصاد البلد وشعبه على رأس لائحة  الفقر والبطالة وانعدام فرص العمل، ويستمر التقاتل من أجل رغيف الخبز كل يوم أمام المخابز، جنباً إلى جنب مع الحريات المقموعة، فيما حزب الرئيس هو القائد والحاكم، وليس لغيره نصيب ولا أمل، مع السعي الحثيث والتخطيط لتوريث الحكم لإبنه بعد رحيله حياً أو ميتاً ! ولعل المثال الصارخ يتجلَّى أكثر في صورة الرئيس العربي غريب الأطوار، الذي تحوَّل إلى مجال للتندر والسخرية، بملابسه ونياشينه وتصرفاته الخرقاء وأفعاله الهوجاء، حتى أصبح أيقونة للمأساة/ الملهاة، والإقصاء البشع لشعب بأكمله بكل تاريخه وثقافته وراهنه، وحتى رفاهيته، وبرغم وجود الثروة والإمكانيات الوفيرة، فلا أتذكر عملاً أدبياً وثقافياً أو علمياً ينسب للدولة، ولا شاهدت يوماً تقريراً تلفزيونياً، ولا صورة لأي معلم معماري مميز يدل على تلك البلد أو المدينة، سوى صورة القائد الضرورة ! لم تتغير قناعتي أبداً بأن هذا الوضع الشاذ لا يمكن أن يستمر، وأن الأجيال العربية اللاحقة في سبيلها للحصول على حريتها عاجلاً أو آجلاً، وينبغي أن تنال حقوقها المسلوبة، وتستعيد كرامتها المنتهكة، ومعانقة أحلامها، وهكذا تستطيع اللحاق بركب التقدم والإزدهار، والمشاركة بجدارة في تشكيل العالم الذي تعيش في كنفه، خصوصاً أنها قامت بثورتها بطريقة سلمية وحضارية، شكلت درساً بليغاً للعالم، وتحولت مثالاً ونبراساً تقتدي به الشعوب التي تتطلع إلى الحرية، وهو ما أسعدني أن أرى الدول العربية تنهض من جديد، بعد سباتها الطويل، وتحصل على مكانتها اللائقة بين الأمم. 

ولن يغيب عني تذكيرهم بأن الدرب طويل، وطويل جداً، ويحتاج إلى الصبر والتفاني والعمل الدؤوب، واجتياز حكيم للعقبات العقائدية والمذهبية، وسواها من الموروثات المتخلفة والمدمرة، فعليهم الاستعداد لمواجهة الواقع، والتغلب على المطبات والمؤامرات التي ستحاك ضدهم من القريبين والبعيدين، والتحلي بالوعي الحضاري الديمقراطي، والتخلص من جميع أنواع الأحقاد والضغينة لبعضهم البعض وللآخرين أيضاً، والتحلي بالروح الخلاقة الراقية المنفتحة، ولا أظن إنني بالغت في التفاؤل أبداً… فما زالت الأحلام مشروعةً ؟ 

نشرت في جريدة «النهار» 22-4-2011  

        وفي جريدة «القبس» 23-4-2011    

       وفي جريدة «الحياة» 27-4-2011

ها أنا أكتب تعليقاً على هذه المقالة وقد مرت سبعة أشهر تقريباً على كتابتها. وكانت هذه الفترة قصيرة نسبياً من الزمن وطويلة عملياً، وكانت مليئة بالتغييرات التي لم تحدث في تاريخ الشعب العربي منذ قرون. فمنذ تاريخ كتابتها كانت الثورات المعنية في بدايتها اللينة، وأقصى ما كان يحدث في الشارع هي المظاهرات والاعتصامات ولافتات «الشعب يريد تغيير النظام» ولافتات «إرحل» إلخ … ولكنها تطوَّرت كما نعرف جميعاً وانتهت بتغيير فعلي  للأنظمة. فمنها ما كانت قليلة العنف مثل تونس حيث انتهت الثورة بهروب الرئيس زين العابدين بن علي إلى الخارج ومنها ما انتهت ببعض العنف الأشد قليلاً في ساحة التحرير حتى القبض على رأس النظام المخلوع الرئيس حسنى مبارك، ومن ثم جاءت الحرب الشرسة في ليبيا والقتل والدمار الذي لحق بأهل ليبيا وبلدهم حتى تم القبض على الطاغية المخبول القذافي وقتله، فخرج مباشرة إلى أوسخ أمكنة مزبلة التاريخ ليتربع على عرش الفاجرين من الحكام الذين أساؤوا وأضروا بمصلحة شعوبهم وبلدانهم، برأيي أن القذافي أظلم من الفاشي هتلر الذي وإن كان محصلة دماره بالحروب أكبر ضرراً وأذى بلده كثيراً ولكنه بمعنى آخر كان يتطلع إلى رفعة شعبه الألماني وتميِّزه عن الغير، أما الحال فكان مغايراً مع القذافي حيث كانت معركته لصالح عائلته وحاشيته، فلم يستفد من ثروات بلاده إلاَّ القليل من الشعب.  فأنظراليوم إلى الوراء وأقيِّم هؤلاء الزعماء الثلاثة الذين ولٌوا. فأرى بأن أشرفهم كان زين العابدين حيث لم يلوث يديه بدم شعبه ولم يتسبب بأية أضرار إضافية  لبلده فغادر تونس بما نهب من أموال. فهروب زين العابدين يعتبر في مثل هذه الظروف وفي ما شاهدناه لاحقاً أضراراً ضئيلة نسبياً ومقدورعليها فهي تختلف عن ما حصل في ليبيا حيث أن الخراب في الحجر والبشر وصل إلى أقصاه وسوف تحتاج لعقود لضماد الجروح في النفوس وإعادة الإعمار وتعويض الخسائر الفادحة التي لحقت بالبلد بيد أبناءه أو بيد الحلف الأطلسي الذي استدعاه الشعب برضاه. وهذا برأيي هو الجزء الأحزن في الموضوع. وفي زمن ما زالت هنالك ثورات على نار حامية ببعض البلدان، أرجو أن تنتهي بأقل الأضرار وبأفضل النتائج.