لا أعلم أين تضعني مقالتي هذه ؟ أفي مصاف الذين يغرِّدون خارج السرب أم في أحد أطرافه ولكن حتماً ليس في وسطه، وعلى كل حال هذا ما أرغب فيه أصلاً ولا أحبذ بأي حال أن أكون وسط جوقة هذا الكم من السلبيين المندفعين الذين يخترعون المبررات والمفردات اللازمة لاتهام الشرق أو الغرب بما يجري في المنطقة، ولاسيما رافعو الشعارات القائلة بأن أميركا ولكونها دولة كبرى وقوية تستخدم موقعها لقمع الحركات التحررية أو فرض إرادتها واسلوبها على الدول الضعيفة أو الفقيرة بطريقة غير أخلاقية ظالمة ومتغطرسة غير آخذة في الاعتبار إرادة الشعوب إلخ…

 لو افترضنا صحة كل هذه الأقوال أتساءل: متى كانت الدول الكبرى أو الامبراطوريات أو القياصرة أو السلاطين أو الملوك يراعون رغبات الشعوب الذين تحت نطاق سلطتهم أو حتى المتحالفة معهم ؟ لا حاجة إلى البحث المُعمَّق، يكفي أن نتذكر سلوك أباطرة الرومان والبيزنطيين في بلاد آسيا الصغرى ومصر وشاهنشاهات الفرس في آسيا وملوك العرب وأمرائهم من الصين إلى الأندلس والقياصرة الروس في شرق أوروبا والقوقاز والسلاطين العثمانيين في بلاد العرب وبعض دول أوروبا وأخيراً ملوك أوروبا سواء في حكم بعضهم البعض أو على الدول الشرقية والأفريقية، وهل هناك أحد لديه أمثلة عن دول مسيطرة قوية ومنصفة في آن معاً (ما عدا ما ندر من أمثلة) من أقصى الشرق أقصد اليابان والصين إلى أقصى الغرب في الأميركيتين لم يعانِ الآخرون من سوء معاملتها ؟ لا أظن أن لدى أحد أمثلة يعتد بها وكافية لدحض ما توصلت إليه ولا أحد يستطيع تجاهل أن التاريخ الحقيقي للشعوب المنتصرة هو هكذا، وان الهدف كان واحداً على اختلاف المكان والزمان، ولم تكن الجغرافيا أو الدين أو المذهب تمنع فرض رغبة القوي على الضعيف أو تستطيع  كبح جماح الأطماع والتسلط للقوة والجبروت والمصلحة. لا غرابة في ذلك، وانها سنَّة الحياة لدى الإنسان أو حتى في عالم الحيوان، سلطة القوي على الضعيف والصراع الأزلي لحياة المخلوقات المقيمة على وجه الأرض.

إذاً لماذا إغفال هذه الحقيقة وتجاهل أمثلة التاريخ وهدر الوقت والمجهود والصراخ في واد لا يسمع فيه الصدى ولا طائل فيه ؟ وأقصد هنا طبعاً هؤلاء المنظِّرين الذين يظهرون أو يشاركون في برامج الفضائيات والكتَّاب الذين يسترسلون في فضح النيات الظاهرة والخفية للدول الكبيرة وهؤلاء الذين يلجأون إلى التطبيق الفعلي لمعتقداتهم في تقديم المساعدات المالية أو اللجوء إلى العنف أو حتى الذهاب إلى درجة التضحية بأنفسهم دفاعاً عن تلك القناعات وحتى إشعال الحروب. أنا لا أدعو إلى الخنوع أو الخضوع كبديل للمقاومة، فهذا بعيد عن قناعتي الشخصية، ولا أسعى إلى تمرير فكرة قبول الأمر الواقع والعيش بسلام مهما جلب ذلك من سوء. أبداً ليس هذا ما أسعى إليه. كما اني لست مدافعاً عن السياسة الأميركية أو غيرها وليس لي مصلحة في ذلك، بل على العكس تماماً ما أسعى إليه هو الدعوة إلى النظرة الشمولية العقلانية الواسعة الدقيقة في قراءة التاريخ القديم منه والمعاصر بما فيها غالبية الحركات التحررية والاستقلالية وما انتهى إليها والاستفادة من دروسها. إن الشعوب والبلدان التي سايرت حكم الزمن عليها غالباً ما خرجت بأقل الأضرار واستطاعت ببعض الجهود الإضافية تعويض ما فاتها واستقلت ركب التطور والتقدم على عكس الشعوب المبتلية بالنافذين مفرطي التفاخر بالعزة والكرامة، كما يدعون ويقنعون شعوبهم بذلك، ويخرجون في نهاية المطاف منهارين ومتخلفين والأمثلة موجودة في شرق آسيا والشرق الأوسط وأميركا الجنوبية مروراً بجزر المحيط الأطلسي ولا ننسى أفريقيا. والسؤال لماذا يفعل ذلك قادة تلك الشعوب والجماعات ؟ (طبعاً المقصود هنا الأشخاص المقتنعين بهذه الأفكار قناعة صادقة غير المنافقين وأصحاب المصالح وما أكثرهم). ألم يقرأ ذلك الإنسان تلك الحقيقة عن الحضارات التي سادت ثم بادت ؟ وهل يعتقد ذلك المفكر أن أميركا مثلاً السائدة على العالم الآن ستظل هكذا إلى الأبد ؟ لا أظن أن عاقلاً يصدق هذا. الدنيا دولاب دوار لا يستقر على حال وسيظل هكذا إلى الأبد، يوم لك ويوم عليك، على مدى الدهر، ثم هذا أمر الله ليس لنا حيلة حياله. الحكيم هو من يعرف هذه الحقيقة ويتصرف في ضوئها بكثير من الحنكة السياسية وسعة الحيلة والمكر الاستراتيجي مع الحد الأدنى من التضحية تسلم الشعوب وتسير في طريقها.  لماذا نحن منهمكون ومشغولون في محاربة الطواحين بقدراتنا الهزيلة ونستهلك وقتنا الثمين ونستنزف طاقات شبابنا وثروات أوطاننا الهائلة ؟ لماذا لا نقنع أنفسنا بأن ما يحصل لنا ليس وقفاً علينا ويحصل مع غيرنا نتيجة ظروف دولية تعتبر مؤقتة حتى لو طالت، وأن النهاية الطبيعية آتية لا محالة، كما يجب أن ندرك أن دولاً أكبر وأقوى منا تفعلها مجبرة، ولماذا لا نقتنع بضرورة التأقلم حتى لو كان شديد الوطأة علينا ؟ أليس من الأفضل لنا الاستفادة من مصادر قوة الخصم المعتدي وتسخيرها لنمو بلداننا مثل التكنولوجيا وغيرها من العلوم المزدهرة عندهم ؟ سبق وقلت الدنيا دولاب والدور الآتي ويا للأسف ليس لنا، بل كما يظهر في الأفق لدول من شرق آسيا، وذلك لأننا هدرنا مقدراتنا في محاربة القوى الأمبريالية كما نقول وأسستنفدنا مواردنا المادية الناضبة ولم نبنِ الذات، ولم نتسلح بالعلم والمعرفة، والأهم أننا لم نمتلك القوة الضرورية الكافية استعداداً للجولة المقبلة، والخشية كل الخشية أننا سنكون في وضع أسوأ بكثير مما نحن عليه الآن.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ 19-5- 2006 

وجريدة «القبس» بتاريخ 19-7-2006.

الظروف التي دعتني إلى كتابة هذه المقالة التي نشرت في جريدتي «القبس» الكويتية و«النهار» اللبنانية عام 2006، لا تزال كما هي إلى الآن، إذ لا تزال هناك أدبيات سائدة حول مفهوم القوة بين الشرق والغرب تجعل البعض يسير حاملاَ السلُّم بالعرض، وهو ما أدى إلى أحداث 11 سبتمبر بما نجم عنها من احتلال أفغانستان وغزو العراق، فلا نحن نتصالح مع أنفسنا ولا نقتنع بأن معاداة الغرب والشرق لأسباب واهية في غير صالحنا، ولا تجلب لنا غير الفقر والتخلف، فيما لا تزال القناعة المطلوبة لمسايرة فرضيات العصر والاقتناع بالحل السلمي لمشاكل بعض الدول والجماعات لا تجد الصدى الإيجابي منها.ففي يوليو 2006 وقعت أحداث خطيرة تؤكِّد عدم القبول، بل الرفض المطلق للموضوعيَّة ومنطقيَّة الأفكار التي كنت مقتنعاً بها أثناء كتابتي تلك المقالة، منها أحداث 11 سبتمبر وضرب أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك وما تبعه من احتلال لأفغانستان من قبل الأميركان وأحداث العراق، وكلها تؤكِّد أن القناعة المطلوبة لمسايرة فرضيات العصر والاقتناع بالحل السلمي لمشاكل بعض الدول والجماعات ما زالت لا تجد الصدى الإيجابي منها. المقالة طويلة وتفسر نفسها بنفسها، لكن ما يحز في النفس أنَّنا لو بقينا على هذا المنوال فلن نستطيع تحقيق أي من مآربنا أو حتى الحد الأدنى من أحلامنا. إن مستوى حياة شعوبنا في أدناه، وذلك بموجب التقارير الحياديَّة الصادرة عن الهيئات المعتمدة، على عكس ما يريد إعلامنا الرسمي إقناعنا به. فنسبة التنمية التي حقَّقناها خلال السنوات الأخيرة لا تتناسب اطلاقاً مع ما كان يجب أن نكون عليه بعد امتلاكنا كل هذه الثروات من الأرض المعطاء والبحار والمواد الطبيعية والقوة البشرية الشابة المنتجة.حقوق الإنسان وحقوق المرأة والبيئة الديمقراطية وجميع مظاهر التحضُّر والتمدن ما زالت بعيدة المنال ولا نطبِّق منها إلا القليل القليل. كان الأجدر بنا ألا نلتفت إلى تلك الشعارات الرنَّانة المضلِّلة بأن كل ما يأتينا من الغرب ليس من صالحنا ونرفضها رفضاً تاماً ونلجأ إلى التغيير الواقع بالحروب والتهديد بحروب لا نخوضها، وحتى إذا ما خضناها لا نخرج منها بالمكاسب أكثر مما كلفنا التحضير لها طوال السنوات ولا تعادل ما خسرناه من التنمية البشرية.