ربما كان أمراً طبيعياً بأن قضية ما في مجرى إجراءات الدفاع عنها من قبل صاحبها تأخذ مناحي مختلفة عبر الزمن عند التقاضي وذلك حسب الأولويات التي تستجد أو عندما يأتي الوقت المناسب لطرحها أثناء مداولاتها بمعنى الخروج من العموميات والدخول في التفاصيل، فقد كان أهم بند هو إثبات حدوث إبادة الشعب الأرمني من قبل العثمانيين   

إن الأرمن ومعهم مؤيدو قضيتهم قد اكتفوا بالبراهين والاعترافات التي حصلوا عليها لغاية اليوم كإثبات حالة. وحان الآن دور المطالبة بالأضرارالمادية المباشرة وكذلك المعنوية غيرالمباشرة والتي ربما تساوي وتزيد عن الأضرار المادية البشرية المباشرة التي تكبدو بها كما ذكرنا.

أولى تلك الخسائر غير المباشرة والمطلوب التعويض عنها وتحصيلها هي إعتذار الدولة التركية لهم وإعادة اعتبار كرامة الفرد الأرمني والتي تم سلبها وسحقها طوال حكم واستيلاء الأتراك على أرمينيا لفترة أكثر من ستة قرون واستعباد الشعب نساءً ورجالاً وتسخيره لخدمة الباشا والبيك  والشاويش  وهدر كرامته والتعدي على شرفه وانسانيته مثلما فعلوا مع بقية الدول التي خضعت لحكمهم لمدد قصيرة أو طويلة، وهذه حقيقة معروفة لجميع شعوب المنطقة، والذي ما جعل الإنسان يشبه العبد المأمور والمرعوب والذي يحتاج إلى وقت طويل لتسويته.  وهذه حالة خطيرة جداً كما أكَّدها عميد الأدب العربي الأستاذ طه حسين عندما قال: “الرجل الذليل المهين لا يستطيع أن ينتج إلا ذلاً وهواناً، والرجل الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالاً “.

ثاني تلك المطالب والتي هي أيضاً مرتبطة بالخسائر غير المباشرة التي أصابت الأمة الأرمنية جراء أحداث 1915 هي التخلف التمدني والتعدادي وكذلك تلخبط سيرورته في تطوره الطبيعي كشعب مثل بقية المجتمعات الحرة على الأرض.

إن التخلف التمدني المقصود منه هو التخلف الذي نتج عن إلتهاء المواطن الأرمني بالبيئة الرهيبة التي كانت تحيط به وخوفه على حياته وحياة عائلته وأملاكه من المحتلين والذي نتج عنه عدم استطاعته تطوير ذاته في شتَّى مجالات التمدن .

أما أضرارالتعداد السكاني للشعب الأرمني الصغيرأصلاً فهي هائلة. فلو لم تحدث المجزرة (كحالة منفردة) وينخفض تعداد الشعب بمليون ونصف مليون شخص والذي كان يشكل نسبة 30% من التعداد العام في ذلك الوقت، لكان اليوم تعداد الأرمن وبالمعايير الدولية للتكاثر أكثر من 30 مليون شخص بدلاً من 10 ملايين مبعثرين حول العالم، وبدلاً من أن يكونوا على أرضهم الأصلية الواسعة والمحتَلة أغلبها من تركيا لغاية الآن ، وهذه خسائر جسيمة لا بد من وضعها على رأس الأوليات.

 

أما التطور الطبيعي الذي شمل وبشكل طبيعي غالبية الشعوب المعاصرة والمجاورة لأرمينيا والواقعة في النطاق الجغرافي والاقليمي في القوقاز ذاته والذي فاتنا المقصود منه الإنخراط في العمار والتحوُّل إلى الصناعات بأنواعها وخلق أجيال ومجتمعات متعلِّمة .

كل هذه الأضرار التي أصابت هذا الشعب الأبيّ المبدع كانت بسبب احتلال الأتراك لأراضيهم طوال ستة قرون وختامها الدامي بإبادة 1.5 مليون أرمني . فكل هذه المرارة لا بد من أن يكون لها صدى وتفهم من بقية الشعوب والدول المتمدِّنة في القرن الواحد والعشرين وأن يدعم طلباتهم المحقة بأن يساعدونا في استرداد حقوقنا المادية وهي أراضي وطن غال مغتصب ودماء شهداء مهدورة أولاً والتعويض عن الأضرار غير المباشرة وهي الاعتذار الصريح ورد اعتبار الإنسان ثانياً ترسيخاً وتأكيداً لمبدء نبيل وهو عدم إفلات المعتدي من العقاب أينما كان ونصرة المظلوم وإعادة حقه ولو بعد حين.

نشرت في جريدة «النهار» بتاريخ  22/04/2013

           وجريدة «القبس» بتاريخ 23/04/2013

           وجريدة «الحياة» بتاريخ 23/04/2013

هذه كانت مقالتي النموذجية التي دأبت على كتابتها في ذكرى المجازر الأرمنية في شهر أبريل – نيسان من كل عام، ورغم تطرقي بشكل أو بآخر للخسائر المعنوية التي تعرِّض لها الشعب الأرمني في مقالاتي السابقة، إلا أن هذه السنة أردت تخصيص كل المقالة للخسائر المعنوية، مستبعداً الخسائر البشرية والجغرافية والمالية، والتي يتم التطرق إليها في كل عام في مثل هذا الوقت من قِبل جميع الكتَّاب أو المحاضرين أو الخطباء في جميع أنحاء العالم حيث توجد تجمعات أرمنية.

نعم، أنا مقتنع تماماً بضرورة إبراز الخسائر والأضرار المعنوية التي أصابتنا أو بمعنى أصح الأضرار الجانبية التي نتجت بسبب الإبادة، والتي ربما تكون أكبر وأشد ضرراً من الأصل مثلما يحدث غالباً بعد وقوع الزلازل، حيث يكون الارتداد الثاني للزلزال غالباً أشد ضرراً أو مشابهاً للزلزال الأول والذي حدوثه حتمي في أغلب الأحيان، كزلزال الإبادة التي حدثت للشعب الأرمني بدءاً من 24 أبريل 1915 وحتى نهاية العام 1922 وكانت من ارتدادها تلك الأضرار غير المباشرة التي تعرَّض لها الشعب الأرمني كما جاء في مقالتي.

ربما كان من واجب الجهات الرسمية الأرمنية وحتى الأممية احتساب وايجاد الرقم الصحيح لما يعادل قيمة الليرة الذهبية العثمانية (الرشادية) بتاريخ الإبادة وهو العام 1915، أي قبل مئة عام من الآن، وكذلك يجب احتساب العدد الصحيح للضحايا ونسبة التكاثر البشري الطبيعي في كل هذه المدة لنستطيع حساب الخسائر التي منينا بها من كل جوانبها، وكذلك لحساب عدد العلماء والمبدعين والأفراد المنتجين وما كان يمكن أن ينتجوا ويضيفوا إلى الناتج القومي الأرمني والعالمي من ثقافة وحضارة.

ربما كان من الأسهل احتساب حجم الخسائر أن تأخذ حصة مساهمة الفرد التركي الذي يعمل فوق نفس تلك الارض حالياً، وكم هي نسبة تطوره وثرائه مقارنة مع ما كان لأجداده الذين عاشوا في تلك الحقبة لغاية الآن، وهذا ينطبق أيضاً على عدد السكان ونسبة التطور المدني وعدد خريجي الجامعات، ونسبة الأراضي المستصلحة لو لم تحدث المجزرة وارتدادتها.