«الفضائيات…  كل يحلِّل على ليلاه

يندهش المواطن العربي لدى مشاهدته بعض الفضائيات العربيَّة لضحالة أفكار تحليلات الجالسين حول طاولات الحوار والمناقشات التي تجري بكثرة هذه الأيام في برامج عديدة.

قلت يندهش لأن المشاهد يرى أن غالبية المحلِّلين والمفكِّرين العرب أو المحسوبين عليهم وعلى جميع أنواعهم من رجال دين أو سياسة أو عسكريين لديهم قدرة هائلة على قراءة الأحداث بالشكل الصحيح، حسب اعتقادهم أن المحلِّل يتظاهر أحياناً، بل قل غالباً، أنه هو أكثر الناس تعمُّقاً في الموضوع والمكتشف الأول للنيَّات المبطنة لحرب العراق والفاضح الأكبر لخطط المعتدين الظالمين، هكذا يقولون، والله أعلم.

غالبية المحطَّات وضيوفها يبالغون ويهولون بأن العراق ضحية لأطماع الغرب التوسعية، وأن الذي يجري مخطط له سابقاً وأن العراق هو بداية الحلقة وأن السيناريو سيتكرَّر أيضاً لدول أخرى لاحقاً وأن المستهدف هو الإسلام تارةً أو نفط العراق تارة أخرى، وأن هذه الحرب تقوم بها أميركا نيابة عن اسرائيل مدعومة من الصهيونية العالمية المتحكِّمة بالبيت الأبيض في واشنطن، وأن المقصود هو القومية العربية أو رغبة الأميركان في إيجاد موطئ قدم لهم في المنطقة لأسباب استراتيجية ولوجستية، ويرى البعض أن الحرب هي معركة الدولار واليورو.

إني أتفهَّم وجهة نظر بعض المتحدِّثين وصدق اعتقادهم ومشاعرهم عما يدافعون إذا كانوا أشخاصاً عاديين، وأوافق بدوري بعضاً منهم وأؤيِّدهم فيه، ولكن ما أستغربه وأستنكره وما يحملني على الغضب والحزن معاً هو ما أسمعه من أصحاب القرار بالذات، الذين كان باستطاعتهم التأثير في مجريات الأحداث قبل حدوثها بموجب مواقعهم القيادية قبل الحرب لغاية أكثر من 20 سنة الماضية، وعند سماعي هؤلاء يتحدَّثون بتلك الحجج القوية عن أسباب ما يجري في العراق وعما سوف يحدث للمنطقة، وبما لهم من مناصب رفيعة المستوى والتي تلقي على عاتقهم مسؤولية أكثر، عندما أسمع هؤلاء  تثور في نفسي الرغبة في الصراخ بأعلى صوتي واتهام جميع هؤلاء بالتسبب بمحنة الشعب العراقي، وأقول: ما دام لديكم كل هذه المعرفة الموثقة عن الماضي والتوقعات المؤكدة عن المستقبل، لماذا لم تدركوا أيضاً أهم ما كان يجب استقراؤه بحكم مكانتكم بأنكم كنتم ملزمين بعدم تعريض الشعب العربي عامة، والشعب العراقي خاصة، لهذه الكارثة الكبيرة. ألم يُتح لكم الوقت للاستفادة من الأحداث الماضية وتعلُّم الدروس المهمة وهو أن الواقعية والمعقولية أهم وأجدى من التمسك بالشعارات الرنَّانة وتسجيل المواقف ؟ أليست الدبلوماسية تعتمد في مبادئها على مبدأ مشترك بينها وبين الحرب من قاعدة الفر والكر ؟ ألم يكن ممكناً ببعض التنازلات التكتيكية تغيير مجريات الأحداث ؟ وهل تعتقدون بأن الدفاع عن العزة والكرامة هو التشدد فقط ولو كان يعارض الواقع ؟ ألم يكن في التاريخ عشرات، بل مئات الأمثلة التي ضحى فيها القادة ببعض من كرامتهم مؤقتاً لإنقاذ البقية يوم كانت الكرامة مهددةً ؟

أتوجَّه بالسؤال إلى كل شخص حسب موقعه من المسؤولية والأحداث سواءً كان نائباً برلمانياً أو وزيراً مختاراً أو عسكرياً منفِّذاً: لماذا تصر على حل المشكلة بمفهومك فقط وتستنفر بعض من يؤيدونك وأنت تعلم أن معظم من يؤيدونك أياديهم في الماء وأنت يدك في النار ومصلحتهم مختلفة عن مصلحتك ؟

إذا كنت معارضاً للحل المطروح، لماذا لم تطرح حلولاً بديلة عملية وواقعية يمكنك بموجبها الخروج بأقل الأضرار وبما يتوافق مع المستجدات على الأرض ؟

متى نتعلَّم أن نكون عقلانيين ونلعب بالمعقول في أرض الواقع، خاصة عندما تشتد المحن. هل يجوز أن نتمسَّك بعواطفنا بكل جوارحنا وننسى العقل ؟

ما معنى أن نتحدَّى العاصفة وعلامات الساعة ماثلة أمامنا ؟.

حتى السلطة الرابعة المتمثِّلة بالإعلام بكافة وسائله وبخاصة كل مسؤولي المحطات الفضائية ومديري البرامج السياسية والضيوف ذوي الصفات القيادية الذين أيَّدوا الرئيس العراقي ونظامه أعطوا جرعة تشدُّد إضافية له للتمسك بمواقفه المتصلِّبة أصلاً، وبدل أن يجتمعوا ويتناقشوا في كيفية إقناع صدام حسين بالتخلي والتنحي عن الرئاسة مثلما اقترح عليه حكيم العرب سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وبدل أن يشجِّعوا نظرية الواقعية المتمثِّلة بتضحية فرد مقابل انقاذ شعب ودولة، وبدلاً من استلهام العِبر من الرؤساء الذين تنحوا عن الحكم لأسباب أبسط من الذي يحدث في العراق، وبدل أن يدافعوا عن شخص معروف أصلاً، لهم صفاته، والذي قمع أحرار شعبه لعقود عديدة، أصرُّوا على الدفاع عن المستبد تحت حجج سبق ذكرها فتسببوا بشكل أو بآخر بما يجري في العراق حالياً.

برأيي أنَّ المذنب الأكبر في هذه الكارثة والذي لن يستطيع اسكات تأنيب ضميره له هو ذاك المسؤول القيادي الذي كان يتحدَّث بحماسة شديدة يرغب في قرارة نفسه تسجيل أكبر المواقف الوطنية أمام الشاشة، وذلك المسؤول الوقور الذي كان يستذكر التواريخ وأسماء السياسيين وأسماء المراجع والكتب، والذي نجح بالخروج من البرنامج مسجلاً أعظم انطباع وهو الغاية المتوخاة من استعراض معلوماته أمام المشاهدين لا أكثر. كل هؤلاء سيذكرهم التاريخ وكل هؤلاء سيحاسبهم، لأنَّهم اجتمعوا على تلك الطاولة المؤثِّرة في سير الأحداث والشارع وتكلَّموا ووجدوا حلاً وجواباً لكل موضوع ما عدا الواقع.

نشرت في جريدة «الوطن» الكويتية بتاريخ 16-4-2003 

وفي جريدة «القبس» الكويتية بتاريخ 25-4-2003 تحت عنوان «غزارة النظريات وشح الواقعية».*

هذه المقالة التي نُشرت في العام 2003 لها دوافع خاصة جاء ذكرها وتفسيرها في المقالة نفسها، وكتبتها  بمناسبة الحشود العسكرية التي أرسلها  الأميركيون وقوات التحالف استعداداً لغزو العراق والضجة التي صاحبت هذه الأحداث، فضلاً عن التحركات الدبلوماسيَّة آنذاك، إذ ما كانت تمر ساعة  من دون أن نسمع أو نشهد عبر الفضائيات ومختلف وسائل الإعلام   تصريحات من الشرق والغرب واستفزازات مضادة من الشمال والجنوب ومقابلات ولقاءات على طاولات النقاش والتحليلات العسكرية والسياسية  وغيرها.

لقد لاحظت تباين الآراء ووجهات النظر في الحرب الأميركية على العراق وتبادل الاتِّهامات والهجوم الاعلامي من بعض التيارات على التيارات المضادة وغابت عن كل هذه المعمعة الواقعية والمنطقية ولم يبحث إلا القليلون عن مصلحة العراق.