غير مفهومة تلك الحساسية المفرطة للعقلية التي يتعامل بموجبها بعض المتشددين مع بعض عادات أو أشياء تبنَّاها أصحاب الديانات الأخرى ممارسةً أو استخداماً، ومنها – على سبيل المثال وليس الحصر – عطلة يوم السبت في نهاية الأسبوع، والنجمة السداسية التي دأب الصهاينة على تسميتها «نجمة داوود السداسية».

حنظلة ناجي

أبدأ بالمثل الثاني أولاً، ولو أنه ليس موضوع الساعة كعطلة السبت الجاري تداوله بسخونة حالياً. في إحدى زياراتي لمنطقة وسط بيروت – عاصمة لبنان – المعروفة بـ«سوليدير» قبل حوالي عشر سنوات، وعند حديثي مع أحد أصحابي المهندسين الذي كان يعمل في مقاولة أعمال الديكور للعمارات المدمَّرة في الحرب الأهلية اللبنانية، قال لي إنه يعمل في مقاولة تصليح وإعادة تأهيل واجهات العمارات في المنطقة وإعادتها إلى وضعها الأصلي، معتمداً على صور قديمة للعمارة أو أي جزء من أجزاء التصميم ما زال كاملاً، وأضاف بأن لديهم تعليمات بتنفيذ الأعمال طبق الأصل عن القديمة تماشياً مع سياسة إعادة وسط بيروت برمته كما كان (أي عبق الماضي في بريق وحلّة جديدين) وهي فكرة أثبتت نجاحها لا شك، وعندما سألته مشيراً إلى أحد المباني: لماذا هذه العمارة مجدَّدة بالكامل بينما أبواب المدخل الرئيسي المصنوع من الحديد المشغول الجميل ما زالت مكسَّرة وعلى حالها حتى اليوم ؟ أجاب صاحبي موضحاً السبب إنه صادف ووجد في خطوط تصميم تلك الأبواب بعض وحدات على شكل النجمة السداسية، ولذا هناك اعتراضات من بعض الفرقاء في اللجنة على التصميم الأصلي وطلب تبديله واعتراض مضاد من فريق آخر بطلب إبقاء الشكل على ما كان عليه، ولذلك لم يبت الموضوع حتى الآن، وأستدرك قائلاً: إنهم في انتظار القرار لمباشرة التنفيذ.

أنا لا أدري ماذا أصبح شكل باب تلك العمارة اليوم ؟ وحقيقي أيضاً أنني نسيت موقعها أصلاً، ولكنني حتى اليوم لم أنسَ الفكرة التعيسة (في نظري أنا طبعاً) التي خرج بها أحدهم ومنع تنفيذ التصميم الأصلي لتلك البوابة الفخمة كشكل جمالي حتى لو كانت عليها النجمة السداسية.

أغلبية التصاميم الجيومترية أو التقليدية في فن العمارة الإسلامية تحتوي على تقاطعات أو خطوط متداخلة تشبه في مخرجات تصميمها الأصلي أو فراغاتها أو هوامشها مناظر (أحياناً ظاهرة وأحياناً مستترة) تشبه شكل الصليب أو النجوم منها النجمة الخماسية أو السداسية أو الثمانية، أو أكثر. ويظهر بجلاء أكثر عند تلوينها، وساعدني في إبراز ذلك بعض الصور الفوتوغرافية التي أخذتها بنفسي، والبعض الآخر حصلت عليه من أقراص مدمجة اشتريتها من حلب تحت عنوان «مجموعة من صور للفن الإسلامي والشرقي في المعمار والأواني والسجاد» وبالإنجليزية «ISLAMIC ARTS» والآخر تحت عنوان «أجمل الزخارف الإسلامية تجده في هذا القرص» وبالإنجليزية «ISLAMIC ORNAMENTATION».

إن التصاميم البديعة لسيراميك قصور المغرب ومساجده مندمجة بتفاصيلها بتناسق انسيابي رائع، بالنقشات الشبيهة بالصليب أحياناً أو النجمة السداسية أحياناً أخرى، أو حتى على شكل مثلثين متداخلين مرات أخرى، وهو بالمناسبة تصميم إسلامي أصيل منقوش على كثير من الآثار في المنطقة. ولو أخذنا بنظرية ذلك المسؤول الذي منع استخدام النجمة السداسية على ذلك الباب وتخلينا عن حق استخدام أي تصميم تشكيلي يحتوي في خطوطه على شكل المصلب مثلاً، فإننا بهذا نكون قد شطبنا ما لا يقل عن ثلث سحر وجمالية فن المعمار الإسلامي من مقوماته، وإذا تعصبنا أكثر وتجنبنا استخدام النجمة السداسية، هو الآخر نكون بذلك أضفنا على قيودنا قيداً إبداعياً إضافياً وضيقنا زاوية الفرجار ( البيكار).

غير صحيح إطلاقاً أن تصميم النجمة السداسية وشكلها منوطان بالصهيونية وحدها. كما أنه ليس من شأن أحد إذا هم اتخذوه رمزاً لهم، مثله مثل النجمة الخماسية الذي ليس ملك السوفييت أو الغرب أو الأميركان، الذين بدورهم تحتوي راياتهم وشعاراتهم على النجمة الخماسية، وكذلك شكل الصليب كخطين متقاطعين ليس للمسيحيين حصراً، ومن قال بأن شكل الهلال هو للمسلمين وحدهم مثلاً. الجميع أحرار في استخدام أي من هذه الأشكال لأي غرض كان ما دام لم يقصد في موقعها الإساءة إلى أحد أو عقيدة أو دين.

إن عدم توسع معشر الفنانين والمصمِّمين المسلمين في استخدام النجمة السداسية كلما دعت الحاجة وبكثرة في تصميماتهم، يكونون كأنهم هم، وبمحض إرادتهم، وبأيديهم حصروا ورسخوا فرادة التصميم للصهيونية بدل شيوعه عند أصحاب الشأن وسحب البساط من تحت أقدام محتكري الشكل. 

وفي ضوء فتاوى التحريم التي تطلق بكثرة هذه الأيام لأسباب ومناسبات عدة، يا للهول لو قام يوماً قائد أو زعيم ما وأفتى بعدم جواز استخدام تلك الأشكال، وأمر بإزالة جميع النقوش التي رُسمت عليها الأشكال المذكورة والإبقاء فقط على الزينات التي لا تحتوي ذلك. إذن فسنكون وخلال أيام أمام مشهد رهيب، حيث نصف منابر ومآذن مساجد القاهرة ومشربيات أروقتها ستكون مشوهة، وثلث مزارات الأولياء في العراق مخلوعة، وكذلك الواجهات والصحون الحجرية للمساجد المنحوتة بأيدي أمهر المعلمين الدمشقيين والحلبيين ممسوحة، كما الخانات (فنادق خمسة نجوم أيام زمان) مثل خان الوزير والأبواب والأسوار الرئيسية في مداخل المدن العتيقة وملايين القطع من المنحوتات الخشبية أو الديكورات الملونة في حوائط وأسقف القصور والمنازل والأثاث المنزلي وطاولات الزهر المطعَّم بخشب الأبانوس والصدف الجميلة والسجاجيد الفاخرة والنحاسيات والزجاج المعشق، ولأصبحت كلها نفايات، فضلاً عمَّا سوف يحصل في تاج محل في الهند، تلك التحفة البديعة التي اختيرت من عجائب الدنيا السبع أخيراً، وجوامع وسرايا وحمامات الأتراك في طوب كابو ومساجد سمرقند وقصور وحدائق الأندلس. طبعاً لا داعي لذكر ما سوف يحصل لفسيفساء وموزاييك زينة القصور والمساجد التي بناها الراحل الملك الحسن الثاني في مراكش أخيراً. ونتساءل ترى كم من مصمم مبدع قيَّد نفسه وريشته بعدم استخدامه تلك الأشكال لاعتبارها من المحرَّمات، في مشروع التصميم الذي يعمل عليه وبيده الآن بسبب تبنيه نمط التفكير المشوش المستجد نفسه، موضوع مدخل العمارة سابقة الذكر. الله يعلم كم خسر فن العمارة الزخرفية والرسم التشكيلي الإسلامي من قرون لجعل هذا الهاجس بعبعاً يخشى الاقتراب منه، بالرغم من أن القاعدة أن تنقل عنهم وينقلوا عنك.

يا ترى كم من خيال خلاق محلق في سماء الإبداع الواسع وجد نفسه فجأة مضطراً لخفض ارتفاعه، وتغيير اتجاهه، وحصر خياله، والحد من سرعته للأسباب نفسها ؟!

يا ترى !!! يا ترى  !

نشرت في مجلة «العربي» الكويتية، العدد 590، كانون الثاني-يناير 2008.

وفي جريد «النهار» بتاريخ 28-1-2008 تحت عنوان «النجم السداسي وفن العمارة».

أصادف بحكم عملي في الديكور المعدني، الذي أمارسه منذ أكثر من 40 عاما،ً تصاميم بديعة تحوي تفاصيل خطوطها المتداخلة – التي هي عصب التصميم الشرقي والإسلامي – أشكالاً تشبه الصليب أو الصليب المعقوف أو النجمة السداسية، وهذه الأشكال، مجتمعة أو متفرقة، تشكل مناظر بديعة، ينبهر الإنسان المتذوق للجمال بتنسيقها وتشكيلها. وهناك آلاف المواقع في البلاد العربية أو الإسلامية تزيِّن واجهاتها أو أجزاء مهمة منها تصاميم نفذها مهندسون ومعماريون مسلمون وربما يكون من تلك المباني مسجد أو قصر حاكم أو مقر حكومي. 

وما دعاني إلى كتابة مقالة في هذا الموضوع هو حادثة موقع «سوليدير» في بيروت، وبعض ما سمعته من مهندسين أعرفهم في مشاريع أخري أنَّهم اضطروا لتغيير تصميم أسوار خارجية لبناء ما، أو أعيد إليهم منتج بعد تصنيعه وتركيبه، لأن صاحب العلاقة اكتشف وجود بعض تلك الأشكال في التصميم التي تعبر عن ديانة لا يعتنقها.

وما لا يعرفه البعض أنك لا تستطيع أن تخلق فنا إسلامياً جديداً من دون خطوط وتقاطعات تشبه الصليب أو النجمة السداسية، كما لا يستطيع الفنان الأوروبي أن يبتكر تصاميم جمالية إذا حاول إلغاء أشكال الهلال أو النصف دائري أو بعض وحدات الأشكال «المحسوبة» على فن معمار ديانات أو قوميات أخرى، كفن المعمار الإيراني الزراداشتي أو الهندي أو الصيني بحيث كل منها له جماليته الخاصَّة به ومنسوبة إليه أصلاً.

إن مصممي شركتنا يستعينون دائماً بالمراجع الهندسية والمعمارية الشرقية والإسلاميَّة  كما يحتاجون بالقدر نفسه إلى نماذج من فن المعمار القوتي والفيكتوري  والأوروبي بشقِّيه التقليدي القديم أو الحديث وذلك لتصميم أعمال الديكور داخل الدور والقصور وخارجها حسب رغبة الزبائن وطراز المباني، ومن هنا يكون التعامل شبه اليومي مع التصاميم بوجه عام وخاصة التصاميم الإسلاميَّة .