تجدَّدت أحزاني مرة أخرى عندما وصلني كتاب الشهر لجريدة «القبس» الكويتية الذي أصدرته تكريماً وتخليداً لأعمال الفنان ناجي العلي في مناسبة وفاته العشرين. وقررت أن أكتب كلمتين متواضعتين أكرِّم بها هذا الإنسان الفذ الذي مهما قيل فيه من ثناء أو رثاء لا أظن أنَّه سيفيه حقه الوطني ونضاله وكفاحه في سبيل وطنه فلسطين وأمته العربية.

من لا يتأثر، يحزن أو يضحك من رسومات ناجي العلي، الفنان الذي كان مالئ الدينا وشاغل الناس في زمانه. من لا يعرف «حنظلة»، ذلك الطفل الحافي بثيابه المرقعة الذي يظهر في جميع رسوماته الكاريكاتورية وهو يدير ظهره للعالم، شاهداً حياً على صميم الأحداث وفي مواضيع الصورة نفسها كأنه الضمير الوحيد الحي.

حنظلة ناجي

سأكتب مشاعري عنه وعن كاريكاتيره، فمثلاً أنظر إلى الكاريكاتور حيث يمسك الفلسطيني بشاربه في الصورة وفي الاطار يقول (بشرفي لأحلق شواربي إذا ما الأنظمة حرَّرت شبراً من القدس) وفي المشهد الثاني الرجل نفسه في جلسة مشابهة حزينة وشاربه طال وأصبح وكأنه لحية طويلة… وطبعاً لم يحرَّر شبر من القدس، بل يتقلص ويقضم يوماً بعد يوم. يا له من مشهد مضحكٍ مبكِ. وانظر الكاريكاتور الذي يظهر فيه أحد العرب في وضع متشنج وجهاً لوجه مع الآخر، يجزم بأن 2+2 = 3 والآخر بنفس العصبية يصر بدوره على أن 2+2 = 5 وعنوان الصورة هو (الخلافات العربية). انظر حولك سترى كم يتوافق ذلك مع الحال العربية (خاصة في بعض البلدان الآن) والحقيقة البسيطة الضائعة.

وصورة أخرى تنبئ بما ثبت صحته، حيث يقول الحنظلة لشخص جالس على الأرض ويكتب على الطبلية في صفحة ورق (مقالك اليوم عن الديموقراطية عجبني كثير شو عبتكتب لبكرة ؟) والرد يكون (عبيكتب وصيتي). يا له من مشهد لا تستطيع فيه إلا أن تهز رأسك وتقول بأسى: الله يرحمك يا ناجي العلي، كنت تعلم ما سوف يحصل لك. أما الصورة التي يظهر فيها رجل يعلق على الحائط صورة لشاب فلسطيني بالكوفية متوفٍ مع الريبانة السوداء على يسار الصورة من فوق وهي صورة الابن الرابع بقرب صور أشقائة الثلاثة معلقين على الحائط أيضاً والسيدة زوجته أم الشباب الواقفة قربه مفجوعة تقول للرجل: كله منك… احبلي يا فاطمة… وخلفي يا فاطمة… فلسطين بدها رجال يا فاطمة… وبالآخر يستشهدوا واحد ورا الثاني دفاعاً عن التنظيم والأنظمة !! يا مصيبتك يا فاطمة !! ….مشهد ورسم كاريكاتوري لو صدر في جريدة اليوم لوصف واقع الحال في فلسطين بمنتهى االواقعية والدقة (القتال بين فتح وحماس).

كاريكاتير ناجي العلي ليس فقط صورة تعكس مشهداً من حدث أو هاجس أو سخرية أراد الفنان التعبير عنها بالخطوط، بل أحياناً هي قصيدة حزينة تدمي القلوب، وأحياناً رواية كاملة تستطيع أن تقرأ فيها قصة شعب وأمة بأكملهما، وأحياناً هي قطعة موسيقية تتأثر بها عند سماعها. خذ مثلاً صورة العربيين المتشنجين التي تكلمنا عنها. ألسنا نحن النماذج في الصورة المذكورة ؟ على الأرجح، بل حتماً نعم.

رسومات ناجي العلي وحنظلته المشهورة هي ملحمة بذاتها نستطيع استخلاص العبر منها، ونماذج ودروس عظيمة سارية الصلاحية لغاية اليوم. إنه الناقد اللاذع، إنه الشاعر واضع الأبيات الموزونة، وهو حكواتي التراجيديا العظيمة لضياع وطن اسمه فلسطين يقشعر لها الأبدان. انظر إلى صورة الحاج العربي بين بقية الحجاج في مكة يرجمون إبليس على كل ما حصل لهم بدءاً بأنه، أي الابليس هو الذي أقنع السادات بأن يزور القدس وبسببه فرط التضامن العربي ووووو ولغاية تفريق إبليس بينه وبين زوجته، وهو يكيل الاتهامات لابليس يتلقى حجراً على رأسه ويصيح آآآخ يا رأسي… مين ابن الأبالسة اللي رجمني !!! بمعنى انهم، أي العرب يحملون ويلومون الشيطان على كل ما يحصل لهم دون غيره، فيما يرمي بعضهم البعض بالحجارة في زحمة عدم التركيز على الهدف قصداً أو بدون قصد. مئات المشاهد الأليمة والمضحكة والمبكية ومئات الأسئلة ومئات الأجوبة المريرة تتفاعل معها في هذا الحيز الصغير في الكتيب الذي يحتاج إلى مجلدات لوصفها وتفسيرها.

في اصدارات سابقة له، واحدة أهداها لي المرحوم شخصياً واحتفظ بها كقطعة نفيسة حتى الآن، عندما عرض انتاجه حينذاك في صالة «العدواني» في ضاحية عبد الله السالم في الكويت قبل أكثر من 22 عاماً تقريباً، وحرر الإهداء على الكتيب بيده في حينه، وتكلَّم هو وزوجته التي كانت موجودة بجانبه أيضاً بحماسة عن أعماله وأعطاني بعض التفسيرات عن بعض كاريكاتوراته الملغومة التي لم أكن استوعبتها. كما تحدث لي وزوجتي عن جيرانه ورفاقه الأرمن في القدس وذكرياته معهم وكان رجلاً مفعماً بالحيوية مرحاً منفتحاً عظيماً.

رحم الله ناجي العلي المناضل الأصيل لقضيته والمكافح الصلب لإسترجاع حق شعبه من المعتدي. كان يحمل كفنه بيده أينما حل وارتحل. أراد الشهادة وجنة الخلد وحصل عليهما بكل جدارة واستحقاق. إذ ماذا يسمى مثله غير شهيد الخط والقلم ؟ 

نشرت في جريدة «القبس» بتاريخ 14/09/2007

       وفي جريدة «النهار» بتاريخ 24/09/2007

ماذا أقول عن ناجي العلي؟. ماذا أقول عن ذلك  الفنان الرائع  وريشته البديعة؟ لقد كنت من المولعين برسوماته الكاريكاتوريَّة  في جريدة «القبس» الكويتيَّة منذ أكثر من ربع قرن، وكنت مبهوراً بالأفكار التي كان يطرحها ويجسِّدها على الورق ويصنع منها في النهاية صوراً معبرة  قد نحتاج إلى صفحات لوصف جزء من المضمون الذي كان يرمي إليه رحمه الله. 

أضف إلى ذلك موضوعاته عن معاناة الشعب الفلسطيني اليوميَّة. لقد كان يتناول مواضيع وليدة الساعة ويجسِّدها رسماً بديعاً في أصدق وصف وأبلغ تعبير. لا أنسى تلك الأيام التي كان فيها البترول العربي موضوع الساعة في المحافل الدوليَّة والكل يتحدَّث  عن دوره  في السياسة العربيَّة وضرورة تسخيره في النزاع العربي الاسرائيلي وما كان من  ناجي العلي إلا أن  سخَّر رسومه  في التعبير عن ذلك، وما زلت أذكر الكاريكاتير الذي تظهر فيه براميل النفط تغطِّي سقوف بيوت اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم وأطفالهم الحفاة يلعبون أمام بيوتهم المصنوعة من الصفيح، ولسان حال الكاريكاتير يقول: «هذا ما حصلنا عليه من النفط». وكان عنوان الكاريكاتير هو «بترول العرب للعرب».

الحديث عن شخصية الشهيد ناجي العلي لا ينتهي، فقد كان – رحمه الله – شخصيَّة فلسطينيَّة فذّة وفريدة من نوعها. موقفه الرسمي كان فلسطين، وعقيدته فلسطينيَّة ولهذا كان له أعداء كثر، لأن اللعبة القذرة التي كان يلعبها بعض الأطراف في تلك الأيام لم تكن لصالح فلسطين ولا الفلسطينيين، بل كانت لعبة فصائل مأجورة ومصالح إقليميَّة ومحليَّة تتصارع لأجل النفوذ والغنائم على حساب فلسطين والفلسطينيين. مرَّة أخرى أطلب من ربِّي سبحانه وتعالى أن يتغمد الشهيد برحمته ويسكنه فسيح جناته.

ستظل شخصية المرحوم الفنان ناجي العلي شاهداً على ضياع القضية الفلسطينية، وهو الذي أضاع عمره في محاولات حفظها، حتى أردته رصاصات الغدر قتيلاً في غربة التيه الفلسطيني.