الحفاظ على الهوية والمكان الضائع

من الماء إلى التراب فالحجر.

تخترع الأرض هويتها، وأساطيرها، ولغتها الغائمة بالمطر والاحتمالات والمحبة، كما عبَّرت عنها المراثي من جلجامش إلى ناريكاتسي الذي عبَّر مبكراً عن ذلك، ومبشِّراً كرسول قال:

إذا رأيتُ جندياً أتوقع الموت.

إذا رأيتُ نائباً أتوقع القسوة.

إذا رأيتُ مسجِّلاً أتوقع ضياع الوثيقة.

إذا رأيتُ قانونياً أتوقع اللعنات.

إذا رأيتُ أنجيلياً أتوقع نفض غبار نعله.

إذا رأيتُ متديناً أتوقع الإلحاد.

إذا رأيتُ مارقاً أتوقع الشك.

ويخلص هذا المبشِّر بمستقبل زاه ماثلاً أمامنا إلى أروع صورة يمكن أن نقرأها لقديس يقرأ الدنيا، ليختم أروع الخواتم في كلماته.

إذا مثلتُ أمام جلالك، أخشع.

من هنا جاءت أرمينيا والأرمن، أرمينيا التي تعالت لتكون حجراً وقليلاً من التراب،  تطاولت وتعالى جبلها آرارات ليستقبل سفينة نوح ليحافظ على الجنس البشري، يعطيهم أرضاً وجبلاً، فيرجمون نسله بحجر حافظ على سلالتهم من الانقراض والغرق.

تأنَّقت أرمينيا فأتقنت لغة الضوء واللون، لتضع مكاناً وكنائس وأجراساً تدق لتعلن لغة المحبة أمام صيحات الحاقدين الطالعين من الخرائب والمذابح كقتلة لا بشر يحبون صيانة الاسم الإنساني.

وكي يتوج الأرمني رمزه الرائع للسيد المسيح المصلوب على الصليب الخشبي والخشب دافئ وحنون، اخترع «الخاجكار» الصليب الحجري، لأن العالم أيام المذابح تحجر قلبه، فلم يأبه بما جرى، تُرى أكانت نبوءة أخرى من الفنان الأرمني قبل أن يرتكب الجزارون جرائمهم…؟

ويبدو أن كيراكوس قيومجيان، هذا الأرمني بامتياز الذي يختزن في ذاكرته ممن سمع أو رأى أو قرأ ما جرى أراد أن يقول ذلك في مقالاته التي أراد لها أن تكون تعبيراً عن إحساس نبيل، قلما افتقده القتلة والمشاركون في ذلك.

لغة المعلم قيومجيان لغة حوار ليس فيها ذلك الكم الهائل والمخزون الحاقد الذي يرتكب الصخب والصياح الصادح بالتأليب والكره وأحقاد الحاقدين، وكانت رداً على المرجفين والخادعين من المنكرين وكأنَّ آرارات في المريخ وأرمينيا قارة أطلانتس.

أرض تُحرق تظل أرضاً من التراب ستعود إلى الحياة يوماً.

أرض تتغيَّر أسماؤها ستعود إلى أسمائها الأولى يوماً.

أرض زرعوها بالقتلة لن تكون يوماً لائقة بأسماء قديسيها الأصيلين !

هل يمكن أن يباع وطن؟ تلك مسألة مؤجلة.

وكيراكوس قيومجيان يريد صادقاً، أن يستحضر كل ما أعطاه إرثه الأرمني لغة ولوناً وأدباً ، أن يكون الأرمني الإنسان المتأرض في مكان قدم للبشرية موقعاً لتعاود خلقها، أعطى للإنسان والحشرات والحيوانات معاودة دورة الحياة، وفي النهاية خشع أمام إلهين.

– جلالة الله.

– وروعة الإنسان.

عالم عجيب وورثته في النهاية المخلصون.

إبراهيم الخليل 

أديب وكاتب